كتب_ رحيم يسري

"أنا مابشحتش يا أستاذ".. بهذه الكلمات التي تحمل عزة نفس وكرامة تبدو واضحة على ملامح الرجل الثمانيني الذي يجلس بأحد الأزقة المهملة يمد اليد ليتقوت ويبقى على قيد الحياة، عيسى ملاك.. ليس مجرد شحاذا أو متسولا يستعطف المارة بل إن يجذب الناس إليه ولا يطلب منهم نقودا أو عطفا بل على العكس هم من يأخذون منه حكاياه وقصصه ويجلسون يتعلمون منه، يغريهم بقصصه الباهرة وذكرياته التي يرفض التخلي عنها بسهوله، الرجل الذي ولد حيث التاريخ والآثار  بأحد قرى الأقصر لم يجد إلا ذكرياته ينثرها على المارة قبل أن يطلب منهم مالا أو إحسانا، وفي زاويته المنسية ألقته الظروف بأحد المناطق بمحافظة بورسعيد يجلس وحيدا دائما يسرد للمارة حكايته  قبل أن يلقيها الزمن في طي النسيان.

"أنا خدمت البلد دي اكتر من اي حد.. أنا شيلت طوب السد على كتافي مقولتش "أي" يوميتي مكتش بتكفيني بس كنت بقول اهي مستورة عشان حاسس انني بعمل حاجة عليها القيمة".. ويتابع عيسى بكثير من الحزن: "وأخرتها اني قاعد اهو ولاد الحلال بيجولي كل فين وفين يشوفوني لو محتاج حاجة" ويكمل ساخرا: "بعد مكنت بحرس السد بالليل وآخد بالي من المكن والطوب دلوقتي بحرس شوية كراسي و كام ترابيزة"..

عيسى اسكندر ملاك رجل غامض يبهرك بكبريائه وفخره بكونه أحد الأيادي التي شيدت السد العالي .. يحكي للمارة عن أصدقائه من مات ومن لا يزال على قيد الحياة ومنهم من لا يعرف شيء عنه"، ويضيف: "كانوا رجاله بمقام مية من بتوع دلوقت لامؤاخذه" .. طلبت منه ان التقط له صورة علق بنبرة غاضبة "اني مش بهلوان " متابعا حديثه " انا متصورتش غير مع الريس بس الصورة راحت مع اللي راحو"..

وبرغم حنينه للماضي وعيشه مع ذكرياته إلا ان عيسى ملاك لا يغيب عنه الحاضر ويقول متحدثلا عن الثورة بلغته البسيطة: "كويس اننا منسكتش عالظلم بس بيني وبينك أنا مخدتش حاجة من كل ده.. لا ثورة ولا غيره" ويتابع حديثه: "أنا طلعت في مظاهرات أيام السادات لما "فتحهلنا" مع أمريكا.. هي أمريكا دي السبب في أي حاجة وحشة تحصل لمصر"، ويتابع عيسى: "مفيش حد زي عبد الناصر ومش هييجي زيو، ناصر حس بينا حتى لو تعبنا وشوفنا قساوة الدنيا اياميها بس مش زي دلوقت"، ويكمل حديثه: "احنا مشفناش حاجة من حد حتى السيسي مشوفناش تغيير منه دا كل واحد بيجي منهم بقالهم 3 سنين يموتلو شوية ويمشي!".

ويقول عم عيسى إنه لا يعرف معنى الديمقراطية ولكنه يتابع ويقول : "الدستور يجب أن يضمن حق "الشحات" و"الباشا" في نفس الوقت ولا يغضب رب الكون".

عيسى رجل غريب الأطوار.. يبدو مثقف حينا وبسيط جدا من ناحية أخرى، من الصعب فهمه ملئ بالتناقضات يدهش مستمعيه وكأنه بحر من الحكايات الممزوجة بالأم والسخرية، وبرغم حالته التي يرثى له فإن عيسى بعكس كثير من شباب اليوم الذين ينتظرون فرصه للهروب من البلاد والعيش في بلد أخرى فإن عيسى يعتز بمصريته وبعيدا عن كون الظروف والأقدار عزفت معه لحنا حزينا إلا أنه لا يلقى باللائمة على وطنه ولكن يتمنى له الخير وككثيرين غيره ربما لم تنصفهم الظروف ولم تطاردهم عدسات الكاميرات ولم يكونوا إلا أبطالا في قصص منسية يبقى عيسى أحد هؤلاء الجنود المجهولين الذين لا ينتظرون مقابلا لما يكنوه من حب ووفاء لأوطانهم. 

shababwenos

شباب ونص - مجلة ثقافية وشبابية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1155 مشاهدة
نشرت فى 11 نوفمبر 2013 بواسطة shababwenos

ساحة النقاش

Shababwenos

shababwenos
بنفكر في اللي بتفكر فيه، وبنقولك اللي محدش مهتم بيه.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,030,615

ما الطريقة السليمة لغسل اليد؟