كتبت_نيرة مصباح

ماذا يكون؟ هذا الشيء الذي يربطني... برائحة السمك الطازج؟

و لماذا -من بين آلاف الرجال و الرجال- يكون هذا الرجل، ” الصياد”،

 أبا روحيا لعقلي و خيالي و أنفاس مشاعري؟!

كنت صغيرة و استمعت لمحمد رشدي ينشد كلاما أبنوديا نديا...

" صياد و رحت أصطاد صادوني" و أيقنت كم حالما هو العاشق الصياد، و أردت حبيبا “صيادا”،  و أرادت أمي لي، زوجا طبيبا، كانت تمسح علي شعري و تتنهد و تحلم بيوم أقترن فيه بطبيب، و كنت أتنهد أنا بدوري و أحلم بيوم أصطاد فيه ذلك الصياد، و أخبرتني يوما..."حبيبتي: أراك دائما في خيالي ترتدين الأبيض لرجل يرتدي هو أيضا في عمله الرداء الأبيض"، فقلت لها و قد أصابني خيالها بالاحباط... "أماه، ما هذا القدر المضجر من البياض! لن يضيرك أن تدخلي بعض الألون في خيالك أحيانا."

 كوني أنتمي لمدينة ساحلية سهل علي أمر الاتصال الدائم بالصيادين، و بالأسماك أيضا.. كم من أيام تهربت فيها من المدرسة و قضيت صباحي بالشاطئ أراقبهم، هؤلاء القوم الصيادين، و استمرت تلك العادة معي بعد أن التحقت بالجامعة.. حسنا، الانكار لن يفيد هنا، كنت في أغلب الأحوال أراقب شباب الصيادين الذين يصطفون يتعاونون علي جذب الشباك المحملة بالسمك أحيانا و بالفراغ أحيانا أخري و قد لفحت الشمس وجوههم و أذرعتهم و التصقت رائحة البحر و السمك بهم حتي كدت تحسبهم كائنات بحرية بالأساس.. أذكر منهم واحدا، “سيد”،  ذهبت و حادثته مرة و كنت في العشرين و كان هو علي ما يبدو في الثامنة عشر، أخذت ألقي عليه عشرات الأسئلة حول البحر و الصيد و السمك و الشباك، و كان هو يجيبني بزهو و فخر بما يملك من علم واسع عميق، بينما هو يحادثني لم أكن أنظر أنا إلي وجهه حقا، لكن كنت أنظر طوال الوقت إلي... كفيه، كانا جميلين و كبيرين و قويين إلي حد مدهش، ربما لهذا هو صياد ماهر، أذكر أنني تمنيت لو ألصقت كفي الرقيق الهزيل الذي لا يقوي علي حمل زوج من الأسماك بكفه القوي الكبير، لا أدري ما السبب تمنيت هذا فحسب.

 أما " عم ابراهيم" فقد تعارفت عليه منذ أن كنت في السابعة عشر و أبقيت علي معرفتي به لسنوات، كان هو كبيرهم و كان رقيقا معي للغاية، عندما كنت أحادثه لم أكن أنظر لكفيه كما كنت أفعل مع سيد، و لا لذراعيه كما كنت أفعل مع بقية الشباب، بل كنت أنظر، و أدقق النظر، إلي وجهه، كانت ملامحه تنطق صبرا، و عيناه محملتين بأطنان من الملح و الشوق و الأصالة.

 لم أعد أذهب للبحر أراقب الصيادين، و لم أعد أتمني حبيبا صيادا، فقد تزوجت بالفعل، من طبيب، تماما كما تمنت أمي، غير أني لا زلت علي هذا الوله برائحة السمك الطازج الندي، لازلت، كلما زرت الشاطئ في صباح باكر أستنشق رائحة الملح و السمك و أتذكر كفي سيد الجميلين و عينين عم ابراهيم المالحتين الحنونتين، لا زال الصيد بالنسبة لي هو أكثر الأعمال عذوبة، و لا زال الصياد - في خيالي هو هذا الرجل الذي يدرك جيدا روعة الشوق، هو هذا الرجل الذي يخرج في الصباح محملا بالشوق تجاه الرزق، و يتخذ من شوقه هذا وقودا يخوض به في أعماق المجهول؛ اما أن يعود لبيته محملا بالخير فتقبله زوجته قبلة شكر و سعادة، أو أن يعود إلي بيته محملا بلا شيء و تقبله زوجته أيضا قبلة "لا تهتم غدا تلقي الرزق باذن الله".. تمر علينا جميعا لحظات نكون فيها صيادين الله في الأرض، لحظات نتذوق فيها لذة الشوق و جنون التنبؤ بما ليس في وسعنا معرفته يقينا: عندما تحبل المرأة فلا تدري حقا ان كانت تحمل ذكرا أم أنثى، عندما يضمك صدر حبيب و قد كنت تحسب أنك وحيد بلا محبين، عندما تفترش وجهك بسمة و قد كنت نسيت حقا بأن لديك شفتين تبتسمان.. كم من سنين مرت و لا زلت أشم رائحة الرزق في كل مرة أشم فيها رائحة السمك، و أتذكر رائحة السمك في كل مرة ألقي فيها رزقا...

shababwenos

شباب ونص - مجلة ثقافية وشبابية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 776 مشاهدة
نشرت فى 27 أكتوبر 2013 بواسطة shababwenos

ساحة النقاش

Shababwenos

shababwenos
بنفكر في اللي بتفكر فيه، وبنقولك اللي محدش مهتم بيه.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,031,374

ما الطريقة السليمة لغسل اليد؟