كتبت_بسمة توفيق
من وراء الستار وقفت (شيرويت) ترقب عربة النقل المنتظرة أمام المنزل بنظرة خاوية ما لبثت أن غطتها الدموع لتحجب عنها رؤية العمال وهم يحملون (مَيْس) – ابنتها المدللة - (آلة الهارب) الخاصة بها وقد أطلقت عليها هذا الاسم منذ عشرين عاماً عندما اشتراها لها والدها رحمه الله ، و بعد دقائق قليلة كانت العربة تتحرك مبتعدة وابتعدت معها العزيزة (ميس) بينما وقفت صاحبتها - شيرويت المطبوع اسمها بحرفية على اطارها الخشبي- مكلومة بلا حراك ولم تشعر أنها تتشبث بالستار الحريري وتصر على أسنانها وتغمض عينيها وتقف بالكاد إلا عندما اعتصرها الألم وسمعت في نفس اللحظة صوت ماسورة الستار وهي تشكو ثقلها ، فتحركت ببطء في البيت الخاوي على عروشه إلا من قطع أثاث معدودة وتوجهت بخطى مرهقة إلى جهاز التسجيل وضغطت بما بقي لديها من إرادة على زر تشغيله لتنساب موسيقى (ميس الريم) وعلى نغماتها الناعمة سارت حتى غرفتها وواجهتها مباشرة صورة زفافها فلم ترها بسبب ضباب من دموع كانت تحاكي المطر المنهمر خارجاً ليحجب الرؤية عن زجاج سيارة (إيهاب) الذي كان يستعين على البرد بزجاجة غريبة الكنه لم يصده عنها في خجل سوى صوت الأذان وبقايا من إيمان قديم في قلبه على ما يبدو ، وبعد القيادة البطيئة بحكم ازدحام شوارع القاهرة وقف مع الضوء الأحمر للاشارة وأخذ ينظر بلا مبالاة لكل شئ ، ثم وقعت عيناه على خاتم زواجه القابع وراء عجلة القيادة فتأمله بضياع ساخر مكرراً التاريخ المحفور في داخله 14/8/2010 ومع رؤيته اسم زوجته شيرويت تغيرت تعابير وجهه كلية وتحولت لملامح عجوز امتلأت بالأخاديد ومع إطلاق شرطي المرور لصافرته انطلقت السيارة وفر الخاتم من بين اصبعيه إلى مكان مجهول بأرضية السيارة وانشغل صاحبه عنه ليرد على هاتفه المحمول المعلن عن اسم فتاة أجنبية تحدث إليها بالروسية التي كان يتقنها بحكم عمله كمرشد سياحي ، وفي الزحام التقت سيارته الصغيرة المستعملة بسيارة النقل التي تحمل (ميس) ورآها فاستفاق من سُكرِه كأنه تلقى صفعة وقرر أن يتبع السيارة ولكنه أضاعها في الزحام فأكمل طريقه إلى منزله مصعوقاً .
⃰ ⃰ ⃰
علا صوت الموسيقى وتردد صداه في أنحاء المنزل بقوة لوجود مساحات شاسعة بلا سجاد أو أثاث بعد أن بيع معظم المتاع من أجل الحصول على القوت بعد أزمة السياحة التي ضربت البلاد وضربت البيت حين أُجبِر ايهاب على ترك عمله ، وهناك في الزاوية تحت النافذة وقع مبلغ من المال كان هو ثمن رحيل (ميس) وفي قلب غرفة المعيشة الخاوية إلا من منضدة وكرسيين وبساط يدوي الصنع أبت سيدة الدار التفريط فيه تناثرت الصور التي جمعت بين شريكي هذه الحياة بدءاً من الزفاف وشهر العسل وحتى عهد قريب وبين الصور جلست شيرويت بجلباب منزلي وفي ضيافتها الدموع وبقايا أيامها السعيدة مع زوجها وأطلال من زمن كان متنبَأ لها فيه أن تحظى بمكانة (عازفة الهارب الأولى في مصر) ، وكردة فعل لهذه الذكرى انهمرت دموعها بغزارة أكبر وأغمضت عينيها بألم وارتفع صوت الموسيقى وأشارت عقارب الساعة إلى الخامسة و كانت الشمس في طريقها للمغيب ومع حلول الظلام وتحرك عقارب الساعة ببطء كان باب الشقة يستجيب لمفتاح (ايهاب) الذي دلف بقلق لما سمع صوت الموسيقى عالياً بشكل لم يعتاده وتحقق من رحيل (ميس) لما رأى مكانها المواجه للباب خالياً ووصل اضطرابه إلى ذروته مع تعثر قدمه بإحدى الصور وبالكثير من قريناتها اللاتي تناثرن هنا وهناك ورقدت إحداهن حزينة تحت قدمي زوجته النائمة بين صورها بشعر -بدا كتاج على رأس ملكة جميلة- وأنفاس هادئة ووجه شاحب و......جلباب لطخته الدماء !
ساحة النقاش