كتبت_جهاد أحمد
خطيت أول حروفى بمهارة على الورق ، وللكلمة غوايات لا تنتهى، تعكس المشاعر كالسحر تنبض بالحياة .. كان إكتشافى الأول فى زيارة المكتبة. قصص ملونة أتوق لقرائتها كلها بنهم، عدا إن مُعلمتى كانت تصادر منى القصة، لأعود لحصة التسميع وتحرمنى النهايات.
أدركتُ منذ الطفولة إن لا شئ يقف أمام الخيال ، بيدى الصغيرة أتشبثُ بالقلم وأكتب النهايات، فى كراسة ملونة، كتبت علي جلدتها" الصحفية " لم أكن أُدرك أن الصحفى ينقل الوقائع بضمير ولا يختلق القصص، أرسم بالكلمات طيورعملاقة مُجنحة تحفظ السلام على الأرض بعد زوال البشرية والطغاة ، والأسد الكسول لم يعد ملك الغابة فى حكاياتى ، ومملكة الأرانب تحيا فى الحقول الخضراء بسعادة ليست مكبلة على موائد المتخمين ، أقرأها على أمي التى تجلس أمامى بفخر وتقول أبنتى الصغيرة كاتبة ، أنتشى فرحاً بوقع اللقب الذى لا أفهمه .
وجدتُ فى الكتاب الملاذ ، فى بلدتى الصغيرة ،عرفت ان هناك عوالم أخرى تنتظرنى ، مغامرات وعجائب لا تنتهى ،وجدتُ فى القلم صوتى الذي لا يطغى عليه صوت ،أن أحقق الحلم وأكون صوت المهمشين والتائهين فأنا مثلهم ليس لى صوت سوى الكتابة .
ذاك اليوم أتذكره جيداً ، بكل آلامه لم أبك ولم أصرخ ، قبعتُ كالمشدوهه، وهم يأخذون ماليس لهم ، شعرتُ بالغدر من نساء العائلة، تآمروا على، كبلونى، وأسقطوا إرثهم، سمعت ضحكاتهم فرحاً وهم يرددون عقبال فرحها ، وأقسمت أنى سأحرمهم من الفرح والدم الملطخ على سرير الزوج. تشبثت يداى المرتجفتان بالقلم أنحت حروف غير مفهومة ودموعى تفسد الورق ولا أعرف أى ورقة كنتُ أنا!
لا أعرف كم من المرات، أستيقظ أبى فجراً مصادفة ليجدنى أكتب كمجنونة أصابها مس الكتابة، هى عادتى التى تبقينى على قيد الحياة ، أكتب وأصرخ على الورق فى وجه الطغاة، أنصف من ظلمته مملكة السماء ، يبتسم أبى ويقول " هو أنتى مش بتنامي " أبتسم وأومئ برأسى حاضر، وصوتى الداخلى يقسم أن أكتب حتى الموت وما بعد الموت.
وتحقق حلم الصحفية، وعملت بالمجلة التى تحوي صور الحُلى والأزياء لتجد مكانها فى كل أرجاء الوطن العربى هكذا يرون إهتمامات المرأة ،كرستُ مساحاتى وكافة تحقيقاتى الصحفية لأكتب عن حقوق قصار القامة " الأقزام "، عن معاناة نساء مصر المنتهكات ، عن دورة حياة العنف ضد المرأة ، عن حرية الرأى والتعبير فى زمن السكوت القاتل ،عن عجز دستورنا القادم ، أكتب عن الحقوق وإدراة المجلة تنتهك حقوقى المالية والفكرية لا تدفع لى أجر وتسرق تحقيقاتى. تمردت وبدأت من جديد .
أقابل الكُتاب والشعراء،، لم أطمئن أبداً لمن يسمون أنفسهم النُخبة.
كم بارعين هم فى الخداع فى المراوغة بحبرهم الاسود على صفحاتهم البيضاء يثيرون هذا الموضوع وذاك يوجهون الفكر, يدعون التحرر , ينادون بالحب والاْخاء وفهم الاخر, وتقبل الأفكار ، بينما يشعرون بالغيرة من كتابات معاصريهم يتجاهلوها وان اضطروا ينتقدوها ويقللوا من شاْنها وحدهم السلف من يمجدوهم لان قلوبهم اطمئنت بحتفهم . وليس هناك مجال لمنازعتهم صالونتهم الثقافية وحواراتهم التلفزيونية ولن يسرقوا اْعمدتهم اليومية فى الجرائد الرخيصة انها غيرة ابن الكار تسيطر على نفوسهم المثقفة . ومالبثت أن خرجت من عباءتهم قبل أن أخطو بها ، حطمت الأصنام ، فليكن الإنبهار بالفكرة وحدها وليس الرمز ، فعاجلاً أم آجلاً ينزلقون فى هفواتهم، أما الفكرة لا تموت.
و لولا الوحدة ما عرفت البشرية أعظم الأعمال الأدبية ،يلزمك الكثير من الوحدة والأفكارالعاصفة لتكتب، ومن أعظم ما قرأت رواية نرويجية "الجوع" لكنوت هامسون، لقد كان ينشغل بأكثر الأفكار الفلسفية تعقيداً وهو مُعدم، كيف لم يتمكن من نشر مقالاته مقابل مبلغ زهيد للغاية فى حياته ،والآن كنوت هامسون رواياته مترجمة بكل اللغات . وفاز بنوبل عن رواية " وأخضرت الأرض " وصاحب رواية "بان" ذات الشهرة العالمية.
"الجوع" تفيض بلمحات إنسانية فريدة من نوعها كاللحظة التى قرر بها ان يبيع كل ما يملك حتى أزرار بدلتة , واللحظة التى مر بها بجوار متسول وشعر بحزن دفين ليس لأنة لا يملك مالاَ على الإطلاق ولم يأكل منذ يومين ولكنه تمنى لوكان معه ما يعطيه له ونسى أنه أيضاً متسول مثله . فالكاتب يتجسد كل ما يراه وينسى نفسه أحياناً.
وللكتابة أيضاً شهوة، ففى تلك اللحظة أشعر بقامتى وقد ازدادت طولا واصبحت اكثر عنفواناً؛ وكأن الأرض لتهتز لخطواتى حتى أنوثتى ييقيظها غضبى، لتطغى بتعبيرات صارخة ينبذها مجتمعى.
وربما يدفعنى فضولى الأدبى إلى أكثر الأماكن بُعدا ً وتطرفاً, ولكنى ممتنة له فلقد علمنى أن أنصتُ إلى جسدى جيداً بهدوء الخبيرة, أن أتوحد مع الكونُ فى لحظات الصمت , لحظاتُ صمت تُغضب من حولى حين يدركون إنعدام جدوى حضورهم , فأنا الآن فى الأُفق وحدى حيثُ لا أسمع و لا أرى , أنا مشدوهة فى أفقِ متوج بالفيروز حيثُ تصبو الأشجار عالية لتخاطب السماء.
ساحة النقاش