كتبت / نيرة مصباح
لحقت بالقطار في اللحظات الأخيرة. حقيبة وحيدة علي كتفها، محملة بكل ما تملك من ملابس و بعض من ملابس أخواتها، حصلت عليها بعد عراك عنيف معهن، حسمته الأم لصالح الفتاة المتفوقة التي جلبت الشرف و الفخر للعائلة بتمكنها من الالتحاق بكلية الاقتصاد و العلوم السياسية بجامعة القاهرة. بكل ثقة، توجهت نحو مقاعد الدرجة الثانية، ليس الثالثة، و هذا أيضا بفضل أمها، فقد أصرت الأم إصرارا صعيدي الشكل و المضمون أن ابنتها لن تذهب للعاصمة و لن تنطلق نحو حياة التفوق و التألق علي متن قطار الدرجة الثالثة البائس الذي تكاد تنطق مقاعده البالية بشقاء و تعاسة راكبيه، و استدانت الأم من أجل تأمين رحلة كريمة للبنت علي مقاعد الدرجة الثانية، التي، و إن لم تكن شديدة الرفاهة و المتعة، لكنها -علي الأقل- تحفظ ماء وجه و كرامة الراكب.
توجهت البنت ذو السبعة عشر ربيعا نحو مقعدها، انحنت قليلا تنظفه قبل أن تجلس عليه، مما أعطي فرصة للستيني الجالس في المقعد المقابل لاختطاف نظرة علي خصر و مؤخرة الفتاة الممتلئين شحما و حنانا. جلست البنت أخيرا، و رأت الرجل، أنيقا بشكل غير مبالغ فيه، ملابسه نصف رسمية، نصف عملية، يقرأ كتابا أجنبي اللغة، علي منخاره تستند نظارات قراءة عتيقة المنظر. انجذبت له انجذابا فوريا عجيبا، تخيلت نفسها جالسة علي فخذيه تمرر أصابعها بوجهه و رقبته و ما تبقي له من شعر الرأس، انجذب هو لها انجذابا ليس أقل عجبا، رأي نفسه يجلسها علي ساقيه و يهدهدها علي ألحان خطي القطار الناعسة.
اشتد سواد الليل، و اشتد توغل القطار شمالا، و اشتد أيضا، انجذاب كل من البنت و المسن للآخر. أسندت الفتاة رأسها لخلفية المقعد و فكرت: "ماذا لو عرف هذا الرجل المسن الوقور كيف أفكر فيه الآن؟...يا لخجلي!". أسند الرجل بدوره رأسه للخلف، استسلم لنعاسه و هو يفكر: "ماذا لو عرفت تلك الفتاة الصغيرة البريئة كيف أفكر فيها الآن؟...يا لخجلي!".
ساحة النقاش