كتبت/ سارة مهران
وردة
يَعود إلي البيت أولا فتستقبله بحضنٍ ينمّ عن شوقٍ جارف وتبتسم فى وجهه ابتسامة تُنسيه كدح اليوم كله.
يَدخل ويَجلس على الأرض،ملاذه ليل نهار،تجلس بجانبه وتسأله عن أحواله،عن يومه التي تعلم هي جيداً أنه شاقاً دائماً.
كل يوم يُعيد نفس الكلام على مسامعها إذ يبقى الشقاء مصاحباً له أينما ذهب ولكنه قد يتأخذ أشكالاً مُختلفة ليس إلا،العجيب حقاً هو أنها تظل تتألم له كلما أخبرها بما يُلاقي من الحياة رغم كون ألمه أصبح مُكرراً ذلك التكرار الذي يشعر هو معه بأن الموت صار أدني إليه من الحياة.
دائما ما تغرورق عيناها حاملي لون البحر بالدموع فيبتسم هو لها مؤكداً إنه يفعل كل هذا من أجلها ومن أجل أولادهم فتربت علي كتفه قائلة:"ربنا يخليك لينا يا أبو العيال." فيبتسم.
تنهض كي تُحضرَ له جلبابه الذي يرتديه فى المنزل إن كان من الجائز وصف مسكنهما بالمنزل،ذاك الجلباب الذي لا يملك غيره والتي دخلت هي فى جمعية بالأمس كي تشتري له أخر،وكي تشتري لأبنائهما كتباً للدراسة بعد أن عجزا على أن يحصلا على كتب لهما من "فاعلي الخير".
تعطيه إياها فيخلع ما عليه من ملابس ويرتدي جلبابه المُتحوّل لونه إلي اللون الأسود من كثرة ارتدائه له،تَعوّد أن يطلب من زوجته أن تشيحَ بوجهها بعيداً عندما يَخلعُ ما عليه كي لا يُخجلها ولكن مع الوقت ما عاد فى الإمكان أن يطلب منها هذا،
المنزل كل يوم يضيق أكثر وصدره كل يوم يضيق بما فيه أكثر.
يفترش الأرض متخذها مضجعاً له،
تؤلمه تلك النومة كثيراً فيشتكي إلي زوجته التي بدورها تخبره إنها طلبت من أختها الساكنة فى عمارة تقبع فى منطقة الزمالك أنها تحتاج إلي بعض المال ووعدتها أنها ستعطيها،قديماً كان يغضب من تلك الفِعلة ولكنه مع الوقت تعوّد عليها إذ يُدرك الآن إنهم بدونها قد لا يجدوا قوت يومهم.
يطلب منها أن توقظه عندما يأتي الأولاد كي يأكلا معاً ما حضرته هي من أكل يتشابه كل يوم إن لم يتكرر فتضحك قائلة:"ياسيدي هما أول ما هيخشوا من باب الشقة هتصحي،بينك وبين
باب الشقة مفيش كام متر."،فيضحك هو الآخر وينام على ضحكة امرأته التي تهوّن عليه الكثير من صِعاب تلك الحياة.
تجلس هي الأرض مُنتظرة أولادها وتفكر،أختها لم تفكر يوماً أن تعرض عليها مالاً،هي لا تخبر زوجها أن أختها تجعلها تنظف شقتها مقابل ما تعطيها من أموال،لطالما أعطتها نصف ما تريد وربما أقل رغم ما ترغمها على فعله.
هي لم تخبره أن شعرها الذي رأي هو فيه جزءاً قد أصابه الصلع قد جري له ما جري كنتيجة لتعذيب أختها لها،هي لم تخبره أن ابنهما يحتاج إلي أموالاً كي يأخذ دروساً مع مدرسه كي لا يرسب ثانية فى الشهادة الإعدادية،هي لم تخبره بأن ابنتهما قد ضُربت بالأمس من مدرسة لمجرد أنها لم تقدر بعد على إحضار المصروفات،هي لم تخبره بالكثير،
ولن تخبره.
يأتي أولادها فتنهض متناسية كل ذلك وتفتح لهما الباب،تأخذهما فى حضنها وتسقط دمعة منها لا إرادياً،تَنزل تلك الدمعة على أكفٍ ابنتها ذات الثمانية أعوام فتسألها عما بها،تضحك هي قائلة:"وحشتوني يا عيال،أنا بفكر نقعدكوا من المدرسة عشان متوحشونيش تاني كدا."،فيضحك إبراهيم ابنها قائلا:"أنتوا شكلكوا هتقعدونا من المدرسة فعلاً بس هتبقى الفلوس هي السبب."،فتبتسم له قائلة:"متخافش،كله بإذن ربك هيتدبر.".
يستيقظ زوجها فيجري الأولاد إليه فيضمهم إلي صدره،ينظر إلي زوجته ويبتسم قائلا:"هما دول اللى مصبرني على كل حاجة."فتبتسم،فيغمز لها قائلا:"وأنتي كمان يا أم العيال."،فتضحك من نظرة ابنها لها.
تصرخ هي بصوت عالي قائلة:"النهاردة الأكل مفاجأة." وتضع أمامهم لحم وأرز وفاصوليا فيصرخون هم أيضاً،يجرون إلي الطعام فتضحك،تجلس بجانبهم وتبدأ فى الأكل غير قادرة علي الكف عن تأملهم،فيبادرها زوجها قائلا:"الأكل ده من أختك ؟!."فتتذكر هي كل شىء،تتذكر كيف أن أختها اشترطت عليها مقابل ذاك الأكل أن ترقص لزوجها،ذاك الرجل الذي تمناها قديماً ورفضته هي لأنه سكير.
يلحظ زوجها ما يُعتمل بداخلها فيترك ما بيده من أكلٍ قائلا:"مالك يا وردة ؟!."،فتضحك قائلة:"هيكون مالي ياراجل،سرحت شوية فى أختي وخيرها اللى مغرقنا من ساسنا لرأسنا."،
يبتسم زوجها داعياً لأختها بالخير والبركة فتدعو الله هي فى سرها ألا يستجيب.
ينتهيا من الأكل ويرتميا فى حضنها شاكرين إياها على هذه الوجبة التي لن يروها لمدة شهورٍ لا تعرف هي لها عدداً،
يذهبا ليناما بجانب أبيهما على الأرض تاركين لها الأريكة كي تجلس عليها قبل نومها إذ أنها على عكسهم لا تحب النوم باكراً.
تقبل كل منهما على خده وتغطيه جيداً بلحافٍ تعلم أنه لن يقيهما من شىء،ترسل لهما قبلات فى الهواء فيبتسموا،تذهب إلي الأريكة الوحيدة فى الشقة وتجلس عليها،تتأكد أن عيونهما قد أغلقت وأنهما قد باتا فى سبات عميق،
فترمي برأسها إلي الوراء وتنخرط فى بكاء صامت ستُنهيه هي بمسح دموعها بأطراف عباءتها مفترشة الأرض مثلهم متخذة إياها مضجعاً آملة فى غدٍ مختلف وربما أفضل.
ساحة النقاش