كتبت_ مريم هشام
أنزل من منزل عمتى المقيمة بالإسكندرية وبينما أنزل ركضاً ألمح جريدة على باب جارها، مفتوحة على صفحة الأبراج تثير فضولى, أقرأ برجى فأجد "الهروب من الواجبات الإجتماعيّة لن ينفع هذه المرّة"..
أضحك ثم أنظر للجريدة فى عينها "وما أدراكى؟ انتى مجرد جريدة! دى الحقيقة اللى كنا مخبيينها عليكى" أنتبه لجنونى فتعلو قهقهتى فأكمل ركضى نحو الباب قبل أن أتسبب فى طرد عمتى من البناية.
فى يدى سى دى و فلاشة, و مفاتيح السيارة .
فى رحلتى للبحث عن جهاز كمبيوتر أنقل به الأغانى من السى دى الخربان إلى الفلاشة".. كم من الوقت مثلاً يمكن لمثل هذه الرحلة أن تطول فى القرن ال21؟!
أركب السيارة وألتقط أنفاسى مهنّئةً نفسي على هروبى الناجح, أمامى سيارة رمل-تسرّب الرمل!- تسد طريقى(لسبب ما، لطالما عصّبتنى سيارات الرمل الكبيرة التى تسرّب الرمل طول الطريق وأتساءل كم من الرمل يبقى لها عند الوصول مثلا! أود لو أفجّرها و أفجر السائق و نفسى!)
ألمح صيدلية تخرجنى من مأساة الرمل فأنزل من السيارة و أذهب لها.
-ممكن أستخدم الكمبيوتر دقيقة؟
-لأ هو مفيش كمبيوتر هنا، فى كاشير بس.*ضحكة سخيفة*
-نعم؟! (نعم فى قاموسي تعنى سأقتلك بسكينة جبنة تلمة وأخبط صباع رجلك الصغير فى سن ترابيزة)
"مفيش كمبيوتر"! كم أنهم متخلفون أصحاب هذه الصيدلية العتيقة!
أفاجأ عندما أخرج من باب خامس محل وقد جاوبنى نفس الإجابة! فعلاُ؟
الحر يقتلنى والشوارع فى صعود مستمر فى المستوى, و أنا ما زلت فى رحلة البحث وقد قررت أن أمشيها.. أهيم فى شوارع لا أعرفها، أتوه.. لكن لا أهتم, فأنا أعرف أن الشوارع فى الإسكندريّة كلها تتعامد على شوارع متوازية مؤدية إلى البحر.. إلا هذا الشارع ! ألمح شرفة مطلّة على ناصية الشارع السد الوحيد الطويل المظلل بالأشجار من كل إتجاه، الشرفة منخفضة فى الدور الأول, بها نبتات صبّار كثيرة. حقاً.. كم شخصاً غيرى قد يجد الجمال فى كل هذا الصبّار وكل هذه الكتب التى اصطفت على رفوف المكتبة! فى لحظة قررت ألا أعود إلى القاهرة أبداً! و أقضى باقى عمرى بهذه الشرفة أحتسى الكاكاو وأسمع أغنية "أنا و العذاب و هواك"..
أه! السى دى! أكمل البحث ولكن بالطبع بلا جدوى، أدخل كل محل وأسأل نفس السؤال وتأتينى نفس الإجابة "فى سايبر عند سوق رشدى كده.. بس مشى ياما!"
أسلك طريقاً من الطرق المؤدية إلى البحر.. أمشى قليلاً حتى أستبين من الكورنيش أين صرت.. جليم!! مشيت من ستانلى لجليم وأنا مش حاسّة يا كفرة.. جمال الشرفات والكتب ومقولات من كتاب عزازيل من كلام هيبا عن الإسكندرية ترن فى رأسى بنصها، حتماً ألهتنى.. و جمال البحر.
سبحان من خلق الكون بهذا الجمال و سبحان من خلق فينا الإحساس به! ربنا حرم بعض الناس من نعمة تذوق الجمال.. منهم أبى، يقشعر بدنى لمعزوفة رائعة وصولو ترومبيت لتوفيق فروخ وأنظر إليه أجده قد بدأ فى سرد قصّة عم شحاتة بتاع الربابة اللى كان عزفه حلو جدا بس فقد يده فى حادث ما..إلخ
لسان جليم! هو الحب بالنسبة لى.. خصوصاً إن الدنيا بدأت تليّل.. أقرر أن أمشيه لأسترجع كل حاجة حلوة حصلت هنا.. أجد المكان صار خرابة، أسأل عن سبب الخراب فأسمع قصة "عركة" دارت بين البلديّة وبين واحد كان عامل نصبة شاى هنا من بائع اللب ذو اللكنة البرشامية. ثم أنطلق متجاهلة الردش و الزبالة من موقعة البلدية و الشاى ..فى طريقى إلى الحافّة.. أجلس على الحافة و أقزقز اللب و أتف قشره فى البحر عشان دى متعه!!.
البحر غاضب وهائج! أعشق ذلك.. أعشق هذا النسيم وتلك القطرات التى تلامس وجهى وأنا جالسة على المصدّات، المنظر لوحة فنيّة متقنة والشمس تسقط فى البحر.. أين تذهب؟ يعنى فين البلاد اللى الشمس بتشرق عندهم من البحر؟ الناس اللى عالناحية التانية دول حلوين أوى، عايشين أوى، و كمان الشمس رايحالهم.. يقف على كتفى طائر صغير جداً لعله كان يلتقط لبّة مثلاُ.. لا أعرف، بس بصيت للبحر وسرحت وقررت أبحر فيه فى سفينة قراصنة أكون أنا قبطانها.. ترتسم ضحكة شريرة و حالمة وبلهاء على وجهى.. الجريمة بتجرى فدمّى! وعب عظيم (الطائر "الخٍطٍر" اللى على كتفى) هيبحر معايا! لنرى غضب هذا البحر من قلبه ونرى الجهة الأخرى من العالم! الجهة اللى أكيد مش صعب الاقى فيها كمبيوتر، الجهة التى تشرق فيها الشمس من البحر. يمكن أسكن هناك فى شرفة منخفضة مليئة بالكتب وزرعات الصبار المتشردة، فى الجهة الأنضف من البحر.. الموج يعلو! و أنا مبتسمة فى سعادة بلهاء بالرذاذ على وجهى وصوت إرتطام الموج موسيقى! فى البحر رائحة الحب.. و الجنون والحريّة ورائحة كريهة!
تفصلنى الرائحة الكريهة المركزّة من أحلامى الوردية فتعود بى إلى هذه الجهة الكريهة!!
أجد أن الشمس قد غابت وغالباً هناك من يبول فى الجوار فيحين وقت التحرّك، أتذكر السي دي و الفلاشة! أرجع للكورنيش فأمشى قليلاً ثم أجلس قليلاً من الإرهاق والإستغراب من صعوبة إيجاد كمبيوتر فى هذه المدينة!
يارب حاجة تحصل! أنا زهقت.. أى حاجة عشوائية ..
إيه .. ده! أه.. *أفرك عيناى* ده حقيقى!! شخص ماشى و شايل شنطة لاب توب!
-إمم لو سمحت.. هو الشنطة دى فيها لابتوب؟
يضحك من غرابة شكل السؤال المخيف نوعاً ما:
<!--أه
أحكى قصة معاناتى فى دقيقة بسرعة كلام أكاد أحلف إنه مسمعش منها ولا كلمة بس كان مبتسم.
<!--طب أنا هلأ رايح كوستا ممكن تنقلى الحاجات هناك براحتك.
نمشى لكوستا اللى مش بعيد ونجلس دقيقة ألتقط فيها أنفاسى وأدرك كم كنت مرهقة و مش حاسّة!
<!--جاي عبالك قهوة ساقعة ولا سخنة؟ أنا هاخد "أيسد فرابتشينو".. بتحبيه؟
<!--لأ الحقيقة أنا مبشربش قهوة عشان القهوة بتكبّر و I don’t drink stuff that I can’t spell.
يضحك فأدرك أنه فاكرنى بهزر.
- و ليش ما بدّك تكبرى؟
- مش عايزة.. و أنا صغيرة حلفت أفضل صغيّرة ومتخلّاش عن الكاكاو لصالح القهوة.
- تمام..*متجهاً للجرسون* إتنين هوت تشوكوليت.
يخرج اللابتوب فأبدأ فى مشروعى أخيراً بسعادة غامرة بالإنتصار على القدر!
أترك له نسخة من المزيكا.. فى ملف أسميته "البنت المصرية اللى قابلتها فى إسكندرية ومش هتشوفها تانى"
تجرى بيننا محادثة إلى حد ما نمطية يكسر نمطيتها لهجته الأردنية وأنه أيضاً فى قطاع الهندسة المعمارية.
أشرب كوب الكاكاو وأستأذن تاركة حسابى على لوحة مفاتيح اللابتوب (إختصاراً لكلمتين لأ مينفعش و بلا بلا بلا)
أذهب دون أن أعرف اسمه أو أن يعرف اسمى الحقيقى.. أخبرته أن اسمى مريم.. عشان لو كنت قلت تفاحة كان هيدور عليا أونلاين.. ومكنتش عايزة أبوظ عشوائيّة الموضوع (تقول صديقتى أن اليوم العشوائى لو حاولت تكراره هتموت محروق)
أحاول إيجاد الطريق لبيت عمتى و أنا فى سعادة غريبة غير مبررة..
أصل عند المنزل و أنا أتساءل.. ماذا لو كنت أسكن فى الشرفة إيّاها مع الصبّار إيّاه و الكتب.. و قابلت الأردنى إيّاه على لسان جليم.. هل كان شيئاً ليتغيّر؟
جزء منّى سكن تلك الشرفة..
و جزء منّى سافر مع عب عظيم..
وجزء منّى أحبّ هذا الشاب ولكنته.
يفصلنى من أفكارى عربية الرمل نفسها!!
فألبس حقيبتى وألملم أجزائى كلها..
و أذهب للسائق و أدنو منه..
"يلعن.. تيييت!!".
ساحة النقاش