كتبت_ بسمة توفيق

"يا حلو صبح يا حلو طل يا حلو صبح نهارنا فل"

أشرقت الشمس على القاهرة حنواً على أهلها من بطش الشتاء فبدت مدينة الألف مئذنة بهية لمَن يطل عليها من علِ أما في الأسفل فشوارعها لا تزال حائرة بشأن استقبال النهار الجديد والبيوت نصف نائمة

ولكل بيت حكاية وفي كل بيت قلوب كثيرة

كثيرة

مثل قلب جميلة التي استيقظت الآن ووقفت أمام بارئها تصلي الصبح

في بيت خلا إلا منها رغم صور الاطفال شديدي الشبه بها الموجودة في كل أركانه متواضعة الأثاث

فرغت من الصلاة

وبدأت تبدل ملابسها فتهدلت إحدى خصلات شعرها ذهبية اللون إلى جانب وجهها تعاتبه على غياب نضارته محاكية نور الشمس ولم تأبه الجميلة بالعتاب فلملمت شعرها وعقصته للخلف

وتناولت علكة من علبة فوق المنضدة وأخذت تلوكها في شغف كمدخن شره يبدأ يومه بموعد مع السيجارة

ثم توجهت محتشمة مغطاة الشعر إلا غرة على جبينها الواسع  عجفاء يسبح جسدها من تحت شال الصوف في بلوزة قديمة الطراز ذات كتافات اسفنجية وتنورة عاجية طويلة كسمكة في محيط ومع ذلك  فهي  جميلة الوجه شاحبته عميقة العينين،  وهي لا تزال تعتصر سكر العلكة في فمها وتنزل بخطى مزعجة على السلالم إلى الشارع و في طريقها مرت بورش تصليح السيارات المتراصة جنباً إلى جنب ينبعث منها صوت القرآن و بالمقهى

   حيث كان مذيع التليفزيون يقرأ الأخبار.

⃰  ⃰  ⃰

 وخلال الفترة الاخبارية الثانية على نفس المحطة استيقظ أهل الدار ينادون (ريما) ولم يجدوا لها أثراً ووشى سريرها المرتب أنها لم تنم فيه الليلة الماضية  وأمام  صور القصف على شاشة التلفاز ، ولولت الأم :  ابن عمي البنت ليست هنا فهب الأب من مقعده  في فزع ثم اتسعت عيناه وهو يدور ببصره في غرفة ابنته ليجد فستان زفافها ملقى على السرير في سكون حاملاً منها رسالة : سوف أعود إلى بيتنا ...إلى وطني.....ريما ، ومع ارتعاش الورقة في يده كانت يد ابنته ترتعش وقدماها تتحديان الخوف من المجهول و برد الغربة في محاولة للوصول إلى مبتغاها وابتلعها زحام القاهرة ، وفي الاتجاه المعاكس نزلت (جميلة) من الميكروباص لاعنة السائق لأنه لم يقف هنيهة يمهلها فيها النزول فكادت تسقط أرضاً وفي غمرة سخطها عدلت ثيابها في عجل ومدت يدها داخل حقيبتها وهي لاتزال ساخطة تلوك علكتها وبسرعة أخرجت مفتاحاً ففتحت باباً لمحل كُتِب على لافتته قديمة الطراز  : كوافير قمر 14 للمحجبات ودلفت إلى الداخل وفي نفس اللحظة خلعت حذاءها وحجابها فتمردت خصلة شعرها من جديد لاسيما عندما  انحنت لالتقاط أدوات النظافة ، بينما كان المسجل الصغير يصدح بإحدى أغنيات عبد الحليم حافظ ترددت كلماتها لتتقاطع مع صوت المكنسة اليدوية ورائحة التراب وصور الجميلات التي تناثرت على الحوائط في غير تنظيم .

⃰  ⃰  ⃰

زياد ....عد من مدرستك اليوم إلى بيت جدك وسوف أوافيك هناك بعد انتهائي من العمل اتفقنا يابطل ؟

أمرك يا باشمهندس ، بابا أخبرني كيف يكون هذا جدي واسمه مختلف عن اسمك ؟ ربت زياد على كتف ولده طارق  وهو يصحبه في الطريق إلى المدرسة  ونظر إليه بشرود عائداً إلى الماضي وكيف كان في مثل عمره عندما توفي أبوه وأبت أمه إلا أن تظل بلا زواج حتى تربيه وتعلمه إلى أن ظهر في حياتها الحب واقتحم قلبها دون سابق انذار فعاشت سنوات طويلة في معاناة بين حبها وأمومتها والحبيب الفاضل ينتظرها عاماً بعد عام ريثما يكبر زياد ، ينجح زياد، يلتحق بالجامعة ، يتخرج في الكلية ، يتزوج وتبدل الزمان وتغيرت الظروف واشتعلت الرؤوس شيباً وما شاب الحب ، ظل فتياً ومازاده انتظار العمر إلا إصراراً وإتزاناً وإحتراماً لكيان هذه المرأة الصابرة ، كل هذا و زياد لا يعرف شيئاً وأمه كما هي أم وأب ومع العمر صارت جدة وجد بل وأم لطارق بعد أن فقد أمه وهو في الثالثة لكنها ظلت تحتفظ من ماضيها بجمال ومن عمرها بحبيب منتظر يعرف زياد وزياد يعرفه ، إنه  معلمه ، أبوه الروحي الفاضل المحترم الفارس وإن تقدم عمره سيظل فارساً فالفروسية لا تشيب ولا تموت حتى بموت صاحبها ووافق زياد على زواج والدته  بأستاذه  دون تردد فهو لا يملك لسنة الله تبديلاً  حاشا لله أن يخالف ربه ويكسر خاطر أمه لقد تعبت تعبت كثيراً و آن لها أن تستريح وذهب إليها وفارسها في يده ففرحت على استحياء وان نطق وجهها بالحبور والراحة وفي الليلة ذاتها كان وداعها الأخير لابنها وحلمها فغادرت الدنيا باسمة وبقي الابن والحفيد اليتيم والفارس العجوز ثلاثة رجال بلا امرأة يعيشون على الذكرى وينظرون إلى المستقبل  معاً وهكذا بعد أن ماتت جدة طارق عوضه الله بجد ................لم يكن اسمه كاسم أبيه ، هنا توقف سيل الأفكار على باب مدرسة النيل الابتدائية للبنين حيث دخل الصبي ولوح لأبيه مودعاً بينما توجه الأخير للجهة المقابلة من الشارع وتمسك بباب الأتوبيس -الذي لم يتوقف ولم يخفف سرعته-  كأمهر لاعبي السيرك .

⃰   ⃰   ⃰

 بعد ساعات طويلة من العمل علا صوت مجفف الشعر متشابكاً مع  جهاز التسجيل و ثرثرة نسائية بلا حدود وسط وجوه كثيرة ومتنوعة كانت جميعها تحدق في جميعها تلتقط من التفاصيل أدقها وتطلق همسات أشبه بالفحيح عن كثافة شعر فلانة و سمنة علانة وطلاق هذه وزواج تلك  ثم تعلوها ضحكات مزيفة كلما التقطت جملة من هنا أو هناك عن سياسة أو رياضة أو فن أو حمل ورضاعة ، عصبة أمم تديرها النساء بمنتهى الجد وبالضحكات العابثة فهو مكان للنساء فقط يُرفع فيه الحجاب ويُكشَف فيه النقاب عن كل الممنوع خارجه ولكن كالحاجب الرفيع جداً الذي طلبته بنت السابعة عشرة من جميلة منذ قليل  هناك خط رفيع يفصل بين العيب واللاعيب ويبقي كوافير قمر 14 مكاناً محترماً وهذا هو المهم على أي حال ، ومن وراء العلكة قالت جميلة لصاحبة الوجه الذي بين يديها لم أعبث بحاجبي أبداً قبل زواجي ، أما فتيات هذه الأيام ........وهزت رأسها أسفاً ولوكت العلكة باسترخاء والخيط بين يديها يهتز وعلى أنغام إحدى الأغنيات الشعبية المسفة إلى حد ما كانت إحدى الفتيات العاملات في المحل تتمايل بجسدها جيئة وذهاباً بنعل منزلي  يحدث صوتاً مزعجاً لاحتكاكه بالأرض وتلتقط المقص من هنا والملقط من هناك مستعرضة مهاراتها وتعدد مواهبها فهى تعمل على وضع المساحيق لفتاة في مثل عمرها تقريباً وترقص وتلوك العلكة بفم نصف مفتوح   في استهتار مسترخي تشعرك بأنه ثمة ارتباط شرطي بين العلكة والفتاة العاملة في التجميل  وتتحدث بصوت مفتوح وحاجب مرفوع وتضحك في آن واحد نشيطة إذا قورنت بزميلاتها اللاتي جلسن  يأكلن و يتعاركن على التلفاز مابين المسلسل التركي وقناة الأغاني الشعبية و متبرجة بعناية تناسب مستواها الاجتماعي ولا تناسب النهار خاصة عينيها ورغم تبرجهما الزائد لم تغفلان في غمرة المشهد الدائب الحركة حولها التليفون المحمول الذي كان يضئ رنيناً وضاع صوته وسط الصخب فصاحت كبائعة في سوق الخضر دون أن تتخلى عن زبونتها أو العلكة : أبلة جميلة ، تليفون .

⃰   ⃰   ⃰ 

في بيت متواضع الأثاث والبسط ، افترشت تلك الطفلة الأرض وانهمكت في لعبها بعروس قماشية قديمة غير مكترثة للحديث الدائر بين جدتها وذلك الغريب  عن مصير عروس أخرى هي (جميلة) أمها التي   تلاعبت بها الأقدار منذ زمن بعيد فكبرت قبل الأوان  لتصعد درجات السلم عطن الرائحة في تهالك واضح والغرة تتدلى على جبينها المتصبب عرقاً رغم برودة  الجو ومحاولتها إحكام الطرحة على رأسها بشكل  ينبئ مَن يراها بلهفة سيرها والعجلة التي سيطرت عليها خروجاً من المحل إلى بيت أمها وكيف لا تسرع وقد أخبرتها هذه الأخيرة بأن ابنتها الصغرى محمومة وما هي الا ثوان ودخلت (جميلة) لتجد صغيرتها تلعب في سلام  وتدرك أن أمها استدرجتها إلى هنا لسبب آخر و أن الدوار الذي أصابها منذ كانت في الخارج لم يكن سببه  المشوار الذي قطعته ركضاً

أو رائحة السلم ولكن رائحة آخر رجل كانت تتمنى رؤيته في هذه اللحظة ........طليقها الأول  ، ورغم الصدمة لم تسقط (جميلة) مغشياً عليها ولكن كانت حالة الإغماء من نصيب  (ريما) على أحد الأرصفة بعد أن أظلمت الدنيا أمامها وأعياها البحث عن سفارة بلدها في القاهرة فقهرتها يد الجوع والبرد ولم تحتمل أكثر وسقطت كما تسقط أوراق الخريف  وأظلمت أمام عينيها الدنيا وأخذت ترتجف ومن حولها التفت مجموعة من النساء يرغبن في إفاقتها كم هي كثيرة أيادِ الحنان لكنها الآن تفتقد يد واحدة  يد إياد ابن عمها وحبيبها التي لم تترك يدها منذ وُلِدَت ثم كان فراقها الأبدي  القاسي هناك تحت القصف .

سويعات قليلة وحان وقت رحيل (طارق) فقبل جده وأستأذنه لينصرف بعد أن ترك الكتاب الذي كان يقرأ له فيه مميزاً الصفحة بثنية رقيقة في أعلاها ، وصاح الجد: هل معك ما يكفي من النقود ؟ فأجابه : نعم معي merci  يا جدي فأطلق الجد صيحة اعتراض مازحة فأردف الولد  على أثرها ضاحكاً : أشكرك يا جدي وضحكا معاً ثم انطلق (طارق) ينهب السلالم نهباً إلى الشارع  ووقف العجوز يشيعه بنظرات الرضا حتى اختفى في المنعطف واختفت الشمس من السماء وإن بقيت منعكسة على وجه محبوبته الراحلة في الصورة الجالسة بهدوء على المنضدة ، وبين الجد والحفيد كانت السنوات تصنع الفارق الذي جعل الأول يندهش مما وصل إليه تعليمنا وما صار إليه وضع المدرس عندما حكى له الصغير عن أترابه الذين  اقتربوا من تجاوز  المرحلة الابتدائية  دون إجادة القراءة و الكتابة والثاني يضحك لأنه لا يدرك حجم المأساة ولأنه على حداثته يقرأ أيام طه حسين ويتسلى مع جده بإعراب كلمات قصيدة الأطلال على صوت السيدة أم كلثوم ووجه الجد كلامه لصورة أم زياد وقال باسماً : حفيدنا  طفل نابه حقاً يا ثريا  لكنه عنيد جداً كيف يرفض ارتداء المعطف في هذا الطقس البارد؟!

⃰  ⃰  ⃰

في هذه اللحظات جمع نفس الطريق بين ريما وجميلة وطارق ومعهم رقية بائعة المناديل وسارة الفتاة الجامعية كلهم في اتجاه باب عربة السيدات في مترو القاهرة الساعة في المحطة الخامسة والنصف و الزحام شديد ، والاندفاع نحو العربة كتسونامي لم يمنع أحد البائعين المتجولين الذين ملأوا الرصيف من إطلاق كلمة غزل نحو جميلة ردتها بضربة من حقيبة يدها دون أن تلتفت ثم ركبت المترو وعلى وجهها نصف ابتسامة بقيت معها حتى بعد أن استندت برأسها على الجدار المجاور للباب وتحرك القطار ..........تحت الأرض!

shababwenos

شباب ونص - مجلة ثقافية وشبابية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 690 مشاهدة
نشرت فى 29 ديسمبر 2013 بواسطة shababwenos

ساحة النقاش

Shababwenos

shababwenos
بنفكر في اللي بتفكر فيه، وبنقولك اللي محدش مهتم بيه.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

3,526,710

ما الطريقة السليمة لغسل اليد؟