بقلم :هاني كشك
ظلت الورقة فى يدى وظللت اقرأها مرات ومرات .أنظر اليها احاول أن أتذكر ذلك العنوان أو اتذكر ذكرياتى مع تلك الورقة . لا اذكر شيئاً على الاطلاق كيف انساها ؟ كيف ؟ تبدو الورقة الان مشكلة صعبة الحل بعد أن كانت اوراق مماثلة لها تمثل لى سعادة بالغة . ولكنى لاأذكر أى شىء عن تلك الورقة . هنا تبدو الذكريات مملة بل تسبب صداع وجهد لمحاولة استدعاء ذكريات قديمة لأعرف تاريخ تلك الورقة .
ليس هذا خطى فأنا غير معتاد أن اكتب كلمة ( شارع ) فى أى عنوان أكتبه وأكتفى فقط بحرف ( ش ) وكأننى اتعجل كتابة العنوان حتى لا أنساه وقد الجأ الى اختصارات فيكفى مثلاً أن اكتب ( م الجديدة ) لأفهم انها منطقة مصر الجديدة كذلك فإن هذا الخط مهندم ومرتب متنساق وانا أكتب بسرعة و لاأهتم بجمال الخط . فخطى دائماً كان مدعاة للسخرية من زملائى فى المدرسة الثانوى اما فى الكلية فكنت اتجنب الكتابة وأكتفى بالحضور السماعى للمحاضرات وعندما كان زملائى يسألونى لماذا لا تكتب كنت اتعلل بأننى اريد أن لا افقد تركيزى فى المحاضرة وادرب ذاكرتى على عدم النسيان .
الشتاء يقدم أوراق إعتماده .. لعل ذلك فقط ما جعلنى اعود إلى منزلى فلم أكن قد إحتطت لتلك البرودة التى حلت فجأة . وما أن تسلمنى الفراش حتى وجدت مجموعة من الاسئلة الملحة لاتكاد تفارقنى ما هذا العنوان ؟ ومن كتبه ؟ ومتى ؟ وماهى علاقتى به؟ . لا إجابة . ولما كانت الاسئلة تشبه بكاء الطفل عندما يريد شيئاً فهو لن يتوقف عن البكاء حتى يحصل على هذا الشىء فقد قررت أن أذهب إلى هذا المكان لأهيأ لنفسى المناخ لأتذكر . أنا أعلم جيدأ ستظل الورقة أمامى وستظل الاسئلة تساورنى وتزيد حتى ترتاح ذاكرتى وأجيب عن كل شىء . إذن لا نوم ولا راحة حتى أذهب وسأكتفى براحة خادعة أقول معها إننى كنت نائماً.
كانت خطواتى فى اليوم التالى تهيأ لمن يرانى إننى أمارس رياضة الجرى حتى ذهبت إلى هناك وكانت الساعة الخامسة عصراً . المكان ليس غريباً على . فى الجهة المقابلة لذلك العنوان يوجد محل لبيع الادوات المكتبية أسمه ( مكتبة النجاح ) وعلى الناصية كشك لبيع السجائر والحلوى وبجواره مقهى صغير . أطلت النظر إلى مدخل العمارة حتى تذكرت إنه عنوان الاستاذ مجدى زهران مدرس اللغة العربية كنت أجىء إلى هنا منذ أكثر من عشرين عاماً أجلس على هذا المقهى مع أصدقائى نحتسى كوباًَ من الشاى وتلك المكتبة كنا نشترى منها الاوراق الفلوسكاب الخاصة بدرس اللغة العربية وكنت اغازل الفتاة الواقفة بها فقد كانت إبنة صاحب المكتبة وأخترع النكات وأنا أشترى منها قلم جاف فى كل مرة أحضر فيها إلى الدرس . إنها سخافة الشباب .
... لامانع من تكرار المحاولة ...
دخلت الي المكتبة وكانت تجلس على مقعد خشبى فطلبت منها قلم جاف تحركت ببطء قريب إلى الكسل وأحضرت القلم فسألتها إن كان هناك انواعاً أخرى أفضل من هذا .. ظهر على وجهها الضيق فستتحرك مرة أخرى كنت أحاول أن أحافظ على ابتسامتى وكنت اريد أن اسألها الا تذكرينى أنا فلان ولكن من الواضح أن تعب السنين انهكها وأضاع شبابها وأكل نضارتها واضاف لها سمنة لم تكن موجودة منذ عشرون عاماً ... خرجت من المكتبة اتساءل لماذا يأكل الحاضر جمال الماضى وحلاوته ؟ هل له ثأراً لديه ؟
أشتريت مجموعة من الحلوى من الكشك وجلست على المقهى أحتسى كوباً من الشاى .. تماما كما كنت أفعل وأصحابى منذ عشرين عاماً ولكنى اليوم أفعل هذا وحدى .. تغير المكان كثيراً فلقد أصبح الشارع ملىء بالمحلات التجارية والضوضاء فى كل مكان والشارع أصبح يبدو كأحد شوارع المشاة بالرغم من مرور السيارات به .. البعض يسير فى نهر الطريق واخرين فضلوا معاناة السير على الرصيف بما يحمله من باعة جائلين افترشوا بضاعتهم عليه .. اصوات الاغانى من كل مكان فكل محل تنبعث منه اغنية مختلفة .. شعبى .. شبابى .. أجنبى .. لا أحد يسمع أى شىء الكل يسير ربما ولا يعرف لما يسير أو ما الذى يريده وقد يتساءل البعض ما الذى جاء بى إلى هذا المكان ؟ كنت الحظ كل شىء حولى واقارنه بتلك السنوات التى كان كل شىء فيها واضح تماماً لعل الحاضر لديه رغبة فى أن يلتهم معالم الماضى ويقضى عليه .. وعندما جاءنى الرجل بكوب الشاى سألته عن الاستاذ مجدى زهران فأجاب عن العنوان ... إذن هو حى يرزق .. سأنطلق إليه .
رجل رائع بكل مقاييس الكلمة .. هادىء الطباع .. طويل القامة .. أبيض البشرة .. وسيم .. الابتسامة الهادئة لاتفارق وجهه .. مثقف إلى أبعد الحدود .. مرهف المشاعر .. عندما يقرأ الشعر كنت أشعر إنه يردده من أعماق قلبه فهو يشعر بكل كلمة بل انك تشعر وهو يردد ابيات عن الحب أنه أول المحبين و إذا ردد ابيات عن الوطن تشعر وكأنه قائد على الجبهة وإذا ردد ابيات عن الغربة تشعر بوحشتها .. هو الان تعدى الخامس والستين بقليل .. كان يعيش وحيداً . لا زوجة برغم إنه يبدو كفتى أحلام لأى فتاة .. تماماً كنجوم السينما .. كنت أستعيد شكله وملامحه وأنا أصعد الدرج . بالتأكيد لن يذكرنى فقد مر أكثر من عشرون عاماً ولكن لابأس من المحاولة بل هى ضرورية .
طرقت الباب وكلى شوق إلى رؤياه فهو من ذكرياتى ايضاً .. جاء صوت من بعيد يطلب الصبر. فعلا كان دائماً فى شبابنا يطلب منا الصبر على تحقيق احلامنا وأنه سيجىء يوماً نحقق فيه ما نريد ولكنى أعتقد أن طلب الصبر الان معناه الا أزيد من الطرق على الباب فقد ثقلت خطواته كما لو كانت قدماه يجران اكياساً من الرمال .. إنه الزمان .. وأخيراً فتح الباب
هو : أهلا وسهلاً
أنا : أعتقد إنك لا تعرفنى .. أنا تلميذك ولكن منذ أكثر من عشرين عاماً.
تتبع.....
ساحة النقاش