كتبت :بسمه توفيق
أكره القيادة ليلاً ولكن بعد خلاف حاد مع خطيبتي ووجودي في منزل أسرتي كضيف صار غيابه اعتيادياً أكثر من حضوره و رغبة زميلي في قنص إجازتي والنزول إلى القاهرة لرؤية طفله الجديد أصبح السفر خياري المثالي فقد ضاقت علي الأرض بما رحبت وانطفأت أشواقي لكل شئ بعد أن كاد الجنون يخطفني بسبب العزلة التي فرضتها على وظيفتي كمعيد في إحدى الجامعات النائية ولا أعرف حقاٌ لماذا كنت أفتقد الزحام وماإن رأيته ظهر مقتي له وسخطي عليه و على العاصمة و كل الوجوه التي كنت منذ سويعات قليلة أتوق لرؤيتها وها أنا أهرول إلى هناك في الظلام كمَن يفر من قسورة ورغم سعادتي الغامرة بقرار العودة و فخري بسرعتي وعدم ترددي في تنفيذه مازال الملل عنواناً يتصدر المشهد خاصة مع إرتفاع صوت هاتفي المحمول برنة (داليا) خطيبتي ، ونمطية أخبار المذياع مابين كآبة وقوع الجرحى والقتلى هنا وهناك وضبابية المشهد السياسي وإسفاف غنائي منقطع النظير دفعني للوقوف على أحد جانبي الطريق وغلق كل شئ الهاتف والمذياع وحتى عقلي ومع إضاءة العلامة المنذرة بقرب نفاذ الوقود كنت قد اتخذت قراراً جديداً وشرعت في تنفيذه فوراً!
الساعة الآن الثانية صباحاً.. والغفوات تداهمني بغارات يصدها التفكير والتأمل في غرفة هذا الفندق فهي حديثة التأثيث كما أنني لاحظت كونه فخماً كمنزل وأنه بُني ليكون قصراً لأحدهم أو لإحداهن كقصر الأحلام الذي تخيلته لتعيش فيه (داليا)، ليتها تعرف كم أحبها، وكم أتعذب كلما اختلفنا لا للخلاف ولا لعلو أصواتنا ولكن لأنها لا تفهمني وتتهمني بأشياء غريبة تثور لها أعصابي كأني لا آبه بها وأريد حبسها ولا أثق فيها وأني أريد أن أكون سيداً لا خطيباً وحبيباً ، الحمقاء اختزلت كل عشقي لها وخوفي عليها في عدم الثقة والرغبة في التسيد وإمعاناً مني في العناد وممارسة الدور الذي رسمته لي أوصلتها إلى بيت أبيها بوجه جامد دون أن أنبس حتى أمام كلمة إعتذارها التي لمست شغاف قلبي بكل ما فيها من كبرياء ودبلوماسية يخفيان وراءهما حبها الذي أعرفه ولا أرى سواه حتى في لحظات غضبها ، منذ سويعات قليلة غادرت هي السيارة وغادرت أنا مسرعاً دون نظرة واحدة للوراء أو هكذا كان المشهد بالنسبة لها لكن ما لا يعلمه أحد أنني قمت بدورة حول عقارهم بالسيارة حتى أطمئن عليها ولم أغادر إلا عندما لمحت الضوء يتسلل من نافذة غرفتها ، تُرى ماذا تفعل الآن هل مازالت مستيقظة مثلي ؟ هل تصب علي جام غضبها أم أنها تشاطر أمي قلقها حيال رحيلي المفاجئ لابد أنها كذلك وإلا لماذا كانت تتصل بي ، هل تبكي هنيئاً لها إذا بكت ، فنحيب حواء يخلصها من المشكلات التي تقض مضاجعنا نحن الرجال والدليل أني لا أستطيع النوم صه ما هذا الصوت ؟ ضميري أم هلاوس صوت بكاء وموسيقى يتداخلان ، ما هذا الرعب ؟ وما بين تفكير في مغادرة السرير ورغبة طفولية في التشبث بغطائي من قمة رأسي حتى أخمص قدمي ، برحت مكاني على أطراف أصابعي ، اقتربت من الباب ، ثم توقف كل شئ دفعة واحدة فعدت أدراجي مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم وبعد بضع خطوات وجدت الموسيقى قد عادت من جديد وكانت أغنية لم أميز كلماتها وإن ميزت مصدرها فالصوت كان ينبعث من الحديقة ومن وراء الستار وبدافع من فضول وخوف وقفت محاولاً معرفة ما يحدث فلم تكن هناك أية حركات غريبة مما جعلني أجلس على السرير مرة أخرى بأعصاب متحفزة هدأت بعد هنيهة رافضة كل العبارات اللامنطقية التي تتداخل في رأسي لتفسير المشهد ورغم ذلك ظلت آهات ذلك البكاء عالقة بأذني حتى أشرق الصبح دون أن يغمض لي جفن !
وبعد سويعات، نزلت إلى البهو فوجدته خاوياً إلا من نزيلين انتبذا مكاناً قصياً بينما كانت صاحبة الفندق خلف مكتب الاستقبال ألقيت عليها تحية الصباح فردتها بود وسألتني بعين الخبير هل استمتعت بنوم جيد ؟ فأجبت برسمية تكذب أن كل شئ على ما يرام وكدت أسألها عما حدث بالأمس إلا أنني تراجعت و بدلاً من ذلك سألتها عن أقرب محطة وقود فوصفت لي الطريق بابتسامة رسمية وانخرطت بعد شكري لها في عملها المعتاد وفي طريقي إلى الخارج كنت قد عقدت العزم على الرحيل قبل الغروب من هذا المكان الذي جزمت في داخلي
بعد الليلة الماضية ومظهر صاحبته المبعوثة من خمسينيات القرن الماضي بشعرها القصير والخصلة البيضاء التي تعلو ناصيتها بين الشعر المصبوغ بعناية وعينيها المتفحصتين وطلاء الأظافر الوقور الذي لا يخفي مظاهر الشيخوخة من يديها لتعيد إلى ذهنك مظهر تلك الممثلة التي كانت تلعب أدوار الشر والتصابي والأم الشريرة في أفلام الأبيض والأسود - في قوة أن المكان حقاً مريب ، فهو نائي وبالتالي النزلاء ليسوا كثراً وهذا يعرض هذه المرأة للخسارة حتماً ويثير الحيرة فإذا كانت تعتاش منه فهي حتماً على شفا الافلاس خاصة وأننا في توقيت لا سياحة فيه ولا استثمار، كما أنها لا تظهر كمحترفة مهما حاولت فهي "هانم" مثيرة للشكوك أينعم لكنها هانم لا يبدو على وجهها شقاء أو معاناة أو احتراف للمهنة فهي وقور قوية على ما يبدو لكنها تبدو حديثة العهد بمسائل الادارة فإذا لم يكن لها علاقة بتجارة الممنوعات أو ما شابه فهي فقيرة جداُ في اعتقادي أو طماعة قد تأتي على الأخضر واليابس في جيوب النزلاء السذج وإن كان كل مافي رأسي أوهاماً لا أساس لها فالمسألة أيضاً لا تخلو من الريبة والرعب بعد أصوات ليلة الأمس فهذا الفندق قد يكون مسكوناً بالعفاريت و من ثم فالرحيل على ما يبدو سيكون الخيار الأمثل للمرة الثانية ، الأفكار تتحرك في رأسي كتروس في آلة كبيرة بينما يسيطر السكون على طابور البنزين حيث أقف بلا أمل والوقت يمر كما يمر في كل مكان في بلادنا هذه الأيام ، يسرع الخطى ساخراً من أحلامنا التي تنهبها مجموعة من أصحاب اللحى باسم الثورة ثم يتأنى ليجثموا على صدورنا أكثر ونرزح تحت المعاناة فلا كهرباء ولا بنزين ولا مياه ولا حياة تباً للديمقراطية التي تجبرنا باسمها على احتمال مهانة هؤلاء لأرواحنا فقد رحل من سبقوهم لأنهم سرقوا الأموال أما هؤلاء فلصوص أيام يسرقون الأعمار و لا أحد يعرف متى يرحلون فالناس يئسوا من الجميع ..الجميع يتاجرون وكل غال تحول إلى سلعة الدين والدم والطموح والأرواح وبقى الضحك رخيصاً والابتسامات أيضاً ولا بديل سوى الانتظار ...ضغطت زر تحريك الكرسي بعد أن أطفأت المحرك و حاولت الاسترخاء وسط خلافات أصحاب السيارات وصراخهم الذي لم يفلح في قطع طريق النوم الذي أتاني في عجل.
بعد وجبة عشاء جيدة.. وجولة تفقدية في شوارع تلك المدينة الجديدة المؤسسة في عهد ليس ببعيد كظهير عمراني في الصحراء استمتعت خلالها بمظهر السائح الغريب وسلوكه الشغوف حيال أشياء وأشخاص لم يرهم من قبل ها أنا أدلف عبر البوابة الخارجية للفندق مرة أخرى بعد منتصف الليل بعد نجاحي في كسر حاجز الملل من سبع ساعات قضيتها في محطة الوقود مابين نوم ومراقبة لتفاصيل المحطة وموديلات السيارات الواردة وتنوع ركابها في أشكالهم وألوانهم ومن هنا جمعني مشهد واحد بجيران محنتي فتحدثنا إلى بعضنا عبر النوافذ و جمعتنا السياسة وعسر الحال بابتسامة ساخرة وتناقض بين يأس وأمل ونكات أضحكتنا معاً دون أن يعرف أي منا اسم الآخر ثم تبادلنا أرقام الهواتف كما يتبادل الأطفال قطع الحلوى وهذا أطرف ما في الأمر على الأقل بالنسبة لي فهاتفي يعج بأرقام وأسماء أحياناً لا أتذكر متى ولا أين التقيت أصحابها لكن مادامت ذاكرة الهاتف تتسع فلا بأس أما ذاكرتي فهي غريبة تحذف ما تشاء لا ما أشاء وتضيف لنفسها ما تشاء ، فتجدني أتذكر أشياءاً وأحداثاً بغيضة مثل خلافات أمي وأبي وكيف أنني ترعرعت فوجدت لكل منهما غرفة منفصلة فلم يكونا زوجين بل كانا أبوين فقط ولذلك تتوارى في طيات عقلي صورهما معاً في الرحلات وأول صورة لهما وهما يحملان أختي الكبرى في الاستديو أو صور الألبومات التي تؤرخ بدورها لعهد لم أشهده وشاهدت اضمحلاله في بيت بلا حب يتعامل كل من فيه بروتينية سخيفة مع كل شئ حتى معاني الأخوة والأبوة والبنوة تحكمها العادة لا الحنان وكان كل شئ اعتيادياً دونما عواطف حتى شببت عن الطوق فوجدت بيتنا شاذاً كريهاً ولعل هذا ما دفعني للهروب منه ومن نفسي الثائرة عليه ويدفعني للهروب دائماً من الواقع فأنا حقاً جبان حتى عندما شخصت دائي وعرفت أني أحب (داليا) آثرت أن أخطبها بشكل تقليدي دون أن أسمعها كلمة حب واحدة فلم أخض لجة ذلك البحر ولم تجتاحني معها أي عواصف عشقية ، ارتدينا خواتمنا في هدوء، فاطمأن قلبي أنها لي وراح في سبات عميق تاركاً العنان لتصرفات تنطق بالوله ولسان لا يصرح به أبداً ولعلي هنا الآن خوفاً من تهور أحمق كاد يدفعني بالأمس للمكوث أمام منزلها بالورود حتى الصباح لأعتذر .... هذه الحديقة جميلة حقاً... فالورد البلدي والياسمين والجهنمية وأشجار التمرحنة كلها تضفي عليها سحراً خاصاً كان ليكتمل لو أن هناك قمر في السماء ......يا الله .. ما هذا ...انقطع التيار وتحولت الجنة حيث أقف إلى فراغ تحتله الأشباح ! ولسبب ما لا أعرفه أو لا أعترف به قررت البقاء هناك فلم يعلم أحد - ممن في داخل الفندق- بعودتي.
فتحت كشاف هاتفي المحمول ... ما هذا ؟... أصوات الأمس تتجدد وخوفي أيضاً يتجدد رغم عزمي الداخلي على الانتظار والمواجهة إلا أن المجهول دائماً مهاب ...نفس الأغنية صارت أكثر وضوحاً هذه إن لم أكن مخطئاً وردة الجزائرية تصدح بكلمات حزينة لم أسمعها من قبل الصوت يقترب... وآهات البكاء تعود إلى أذني وتهز كياني ككل ، توقفت ...حاولت التراجع ...ولم أفلح .. لا سيما وأن الكلمات صارت أكثر وضوحاً كأنها تناديني ...
رايح لفين خليك.. رايح لفين.. هاعيش لمين غير ليك..غير ليك ..هاعيش لمين
قلبي بينبض في صدرك وروحي وردة في ايديك
غمضت ليه يا حبيبي ... دي حياتي نجمة في عينيك
وانت غرامي وهوايا ..خايفة لإيد الزمان تكتب قوام النهاية
حبيبي خليك معايا..
خاتمة اللحن الشجية كانت خلفية لمشهد غريب تراءى لعيني من وراء إحدى الأشجار لفتاة جلست تبكي تحت كرمة عجوز صنعت من جذورها القوية الضاربة في الأرض عرشاً لها وإلى جانبها ورقة مفتوحة يداعبها الهواء وأشياء أخرى لم أستبينها ، وقفت أراقبها .. إنها "ذات الرداء الأسود" التي تعمل هنا هكذا سمعتهم يتهامسون ناعتينها بهذا اللقب أمس وهي على الأرجح ابنة صاحبة الفندق ، فكلتاهما أنيقة وبهية وإن كان الجمال الباكي لهذه الفتاة و أسْوَدُها الانجليزي النزعة نحو الفساتين الطويلة واسعة الأكمام مغطاة الصدر والرقبة، وشعرها الكستنائي المعقوص للخلف تاركاً تلك الخصلة المتمردة تتدلى على وجهها ، وجمود قسماتها وشرودها المستمر أشدَ إثارةً للشجن والحيرة فعلى الرغم من كونها من بني الانسان وليست جنية كما كنت أظن منذ قليل إلا أن اللغز ازداد تعقيداً و رهبة بالنسبة لي و.......عاد التيار الكهربائي ولم ألحظ أني أقف تحت أحد كشافات الحديقة حتى جعلني نوره أضطرب محدثاً حفيفاً قوياً بين أوراق الشجر جعلها تنتبه لوجودي ...فهبت واقفة واتسعت عيناها في ذعر واستنكار وأخذت تنظر إلي ملياً ثم انطلقت تعدو تاركة كل شئ وراءها !
ومع بزوغ الفجر تظاهرت بالعودة لتوي ومكثت في غرفتي لا أفكر إلا في الفتاة وأشيائها التي تراصت على سريري ممعنة في تحدي ضميري وفضولي بعد أن أخفيتهم عن الأنظار بكيس أحضرته من السيارة حفاظاً عليهم من الضياع وحتى لا يتعرضوا لعبث أحدهم فالفتاة تركتهم دونما قصد كما بدا وبعد انتظار غير طويل وجدتها في الحديقة كما توقعت تبحث عن حاجياتها فنزلت ولم أحتاج لتنبيهها لوجودي فقد التفتت إلى على الفور وكأنها تنتظرني فقلت معتذراً : لقد تركتيهم وراءك بالأمس وأخذتهم حتى لا يضيعوا و.....بترت عبارتي بعنف التقاطها للكيس وضمته إليها ثم أخذت تراجع محتوياته بهستيريا ما لبثت أن اختفت وعاد الجمود إلى وجهها مرة أخرى ثم أولتني ظهرها وسارت بهدوء دون أن تنبس وتركتني مشدوهاً للمرة الثانية .
مضى نهار آخر لم أبرح خلاله الفندق ، وجلست في البهو وفي تطور نوعي كانت نظرات ذات الرداء الأسود تصطدم بي في عنف كلما حانت مني التفاتة ولم يكن هذا غريباً بالنسبة لي فقد كنت أراقبها أيضاً على غير إرادة مني حتى أصابني الحرج البالغ عندما ضبطتني أمها متلبساً بذلك الجرم المشهود فقالت برقة لم أكن أتوقعها وابتسامة لم أرَ في حياتي أعجب منها : ابنتي ... وهي ليست عدوانية أو مجنونة كما تظن ...فالأشياء ليست دائماً كما تبدو عليه ولم أجد رداً فكان الصمت ملاذي وتشاركنا النظر إلى الفتاة وكعادتي انطلقت هارباً من الأم التي عرفت بما حدث الليلة الماضية على الأرجح ومن الابنة التي حاصرت كياني بلغزها فباعدت بيني وبين استقرار جئت أطلبه في هذا المكان ومن نفسي التي استمتعت بكوني متورطاً في مغامرة مجهولة أبى عقلي الاستسلام لها فأطلقت ساقي للريح باحثاً عن الوقود حتى أكمل طريقي إلى زنزانتي الاختيارية في استراحة أعضاء هيئة التدريس ، وبعد انتظار طويل كان يومي معه أشبه بأمسي حصلت السيارة على غذائها أخيراً وعدت أدراجي إلى الفندق ودخلت من البوابة الخارجية عازماً على لملمة أشيائي و المغادرة فوراً وعندما وصلت إلى مكان المراقبة الذي شهد افتضاح أمري الليلة الماضية وجدتها في انتظاري ....تقف بردائها الأسود في أبهة الأميرات لتقلب ليلتي بل وحياتي كلها رأساً على عقب!
حبيبي عشي الجميل حضن الدفا والهنا.. يا حلم كان مستحيل وحققه ربنا
على كتف مين راح أميل براسي وأنعس أنا ...ومين هايسمع غنايا
خايفة لإيد الزمان تكتب قوام النهاية
عن قرب هذه المرة راحت كلمات الأغنية تنساب إلى أذني وكأنها آتية من جذور الكرمة العجوز لا من الهاتف الصغير لتصدح في الفضاء الفسيح و يرتسم رجع صداها ألماً يذيب ملامح تلك الفتاة حتى انتهت وران صمت لم أعرفه إلا في المحاريب .. صمت يتحدث بمعاني يعجز عنها اللسان قطعته جليستي أو آسرتي بقولها : ما ظنك بي ؟ فقلت لها : فتاة جميلة يلفها حزن عميق لفراق عزيز على ما يبدو لكن إن صح ظني هذا فأنا أرى أيضاً أنك صغيرة والحياة أمامك وجرحك وإن كان عميقاً اليوم فسوف يندمل غداً لا محالة والزمن كفيل ب.....استوقفتني بإشارة من يدها : كفاك فأنا أعرف كل كلماتك التالية وأعرف أنها لن تجد لدي قلباً يسمع فلا تعذب نفسك معي وظنك في محله مع تعديل بسيط فأنا فتاة نسيها الزمن ولم يعترف بها منذ وُلِدَت في الملجأ مجهولة النسب بلا أسرة ولا أهل .. وكان يمعن في السخرية منها كلما حاولت تحديه بالنجاح والانطلاق حتى هزمها فعاشت أسيرة خارجه.. أسيرة الفرصة الضائعة والحب المستحيل ....أتمت عبارتها وهي تجهز على اندهاشي بقولها أن صاحبة الفندق أو سيدة القصر هي أمها بالتبني وأعطتني تلك الورقة التي كانت بين حاجياتها و التي أعرفها مع حقيبة يد صغيرة وقالت: كلامي جريح بلا معني تخاريف وترهات.. وزفرت زفرة حارة مستطردة: أشعر أن القدر لم يضعك في طريقي الموحش عبثاً لذلك قررت أن أواجهك أو بالأحرى أواجه نفسي بما حدث لأول مرة علي أستطيع النوم لليلة دون دموع ودون أن أنبس فضضت الورقة كالمسحور فوجدت كاتبها يقول بعد البسملة :
حبيبتي ...
ترددت كثيراً قبل أن أكتب هذه الرسالة بما فيها من اتزان ورصانة ...فقد مزقت أسلافاً لها خشية أن يزعجك جنونهن ففي الأولى جرؤ قلمي على مناداتك "حبيبتي" وفي الثانية خرج عن مألوفه فركع يتوسل بكلمات من شوق نازف أن تكوني لي ومعي وفي الثالثة صرخ شاكياً قسوتك كارهاً دمي الذي تستوطنينه وهكذا توالت عشرات الأوراق فلم يهدأ هذا القلم المتمرد إلا عندما نادتني أرضُنا الغالية لنجدتها من قوم لا عهد لهم ولا ذمة استباحوا الدين والدماء لأهداف سياسية مشبوهة ، فسمعت صوتك في نبراتها ورأيت جمالِك في بحرها وكبريائك في جبالها وتوحدتما في وجداني فصرت أنتِ الوطن والوطن أنتِ ولم أعد آبه بغضبي منك فتحولت ثورتي من ثورة عليكِ لثورة على نفسي لأنفذ وعدي لكِ يا سكني بأن لا أخلع ملابس الميدان التي تحبينها وأغار منها وعليها إلا إذا انتصرت أو استشهدت فتكون حياتي مهرك ،و إذا كان النصر حليفي فاعلمي أني باذن الله سوف أعود لأعلن عليكِ حبي وسأقطع هدنتنا اللعينة رافضاً تلك الحماقة التي تدعينها "حباقة" فلا توجد يا صغيرتي منطقة وسطى بين الحب واللاحب ومادمت تحبينني -وأنا متأكد من ذلك مهما حاولتي انكاره- فلا تخافي ضعفاً ولا هزيمة انطلقي ولا تختبئي مني وراء الصداقة أو أي شئ آخر ..تحرري ...غني ...غني أغنيتنا الأولى دعي موسيقاها وكلماتها تأخذك إلى هناك غنيها معي الآن دعيني أسمعك.. كل ده كان ليه لما شفت عينيك ..حن قلبي إليك وانشغلت عليك ...وتذكري يوم رأيتك أول مرة أميرةً تحب الحياة ..وكيف راقصتك حتى ظن الحضور أننا العروسان وليس صديقتك وصديقي ..أتذكرين ؟ يومها حضرت الزفاف بحلتي العسكرية وليتني لم أفعل فبعدها انحسرت علاقتنا في حبك لها ولوطننا وانغماسك في مشاكله حتى كدت أكره علومك السياسية وأكره كوني قابلتكِ وتعرفت عليكِ بصفتي لا شخصي فلم أكن أتصور قبل أن أراكي أنني سأكون ذلك الرجل الذي يغار من ملابسه لأنك لم تري من وراءها قلباً ينبض بكِ وانساناً يريدك أن تشاركيه تفاهاته وحبه للمشروبات العطرية والخطابات الورقية والأطفال دون العامين ولهوه ونزعاته نحو الحماقة قبل جده وان تعرفي تفاصيله التي لا يعرفها أحد ولا حتى هو يعرفها عن نفسه ولكنك أحببت الضابط وتركتِ الانسان وقتلتني هذه الحقيقة وبت أسأل نفسي ماذا لو لم أكن ضابطاً؟ وعذبني السؤال فالضابط والانسان كلاهما واحد أو هكذا كان عليكِ أن تفهمي ولما لم يكن أمامي وقتاً أكبر للوقوف على أبوابك المؤصدة حين حُسِمَتِ المسألة لصالح رجل الحرب -ولعلك فرِحةٌ بذلك- وجئت إلى هنا إلى سيناء بلا تردد ، جئت ساخطاً عليكِ ،ناقماً على مراهقتك المتأخرة ، حائراً في أمرك ، لا ألوي على شئ إلا التفكير فيكِ ، أسير على درب نسيانك جيئة وذهاباً في نوبتي الليلية ثم أعيدكِ إلى شراييني في الصباح ، أحببت في سيناء صورتك وتفاصيلك ثم وجدت في خوفها حلاً للغزك فكلاكما يا صغيرتي تحتاج للحماية والأمان وتلك الخيوط التي تكون بدلتي هي حياة كلتيكما ومستقبلها ؛ فاطمئني يا طفلتي ولا تفزعي مادمت حياً فلن يجرؤ مخلوق على مسِك بسوء .
قبل الختام اسمحي لي أن أقرئك سلام حبيبتك وأبلغك منها رسالة : هل من نظرة عطف للانسان الكامن بداخلها ؟ هل من أمل في أن نعمر هذه الأرض سوياً يوماً ما ويكون لنا فيها أولاد وبنات بعد أن يتم ضابطك المتيم مهمته ؟ أسمعك تضحكين محذرة من عبارات الوله لتهربي من الاجابة ولن أتركك تهربين ككل مرة أجيبيني.. وأحبيني.. أحبيني ليوم واحد واقتليني جفاء بعده ..قولي أحبك.. قوليها ولو مرة اتركيها تنساب من بين شفتيك بلا خوف واعلمي أني لن أيأس وسوف أنتظرها وأنتظرك يا حبيبتي ..سأنتظرك إلى الأبد.
⃰ ⃰ ⃰
بعد زفرة حارة ..ارتعش الخطاب بين يدي فمضت تكمل الحكاية في شرود : استشهد بعدها ولا أعلم مَن قتله إرهاب المتطرفين أم إرهاب المجتمع الذي منعني وأنا اليتيمة التي لا ذنب لها أن أصرخ وأقول له أنا أحبك أحبك أنت بكل أشيائك وتفاصيلك وتفاهاتك وحماقاتك وطفولتك ورجولتك خوفاً على مستقبله و إشفاقاًعلى نفسي منه. ومضت تلهث من فرط الانفعال وهي تفرغ أمامي جعبة آهاتها وبقايا حبيبها فأخرجت من الحقيبة الصغيرة ماكينة الحلاقة الخاصة به وفرشاة أسنانه وساعته وعطره وانخرطت في نوبة بكاء مريرة كلمت من ورائها أشياءه : أكل الخوف روحي فأضعت حبي هربت يئست ولم أسمع نداءه إلا بعد أن رحل ...وسأحبه وأكلمكم وتكلموني عنه كيف كانت لمسته ونظرته في المرآة وسأظل أشم رائحته حتى آخر العمر وأسمع أغنيتنا الأولى وأخاطبه بأغنيتي الحزينة حتى نلتقي.
أتمت عبارتها وأجابتها عبراتي فلم تفلح أي كلمات في الخروج على لساني وما كان مني إلا أن أعدت تشغيل الأغنية وجلست أمامها صامتاً حتى الصباح ومع رحيلي ارتسم على وجهها شبح ابتسامة ولوحت لي بيدها مودعة وخارج القصر الذي قضيت فيه أجمل وأغرب ثلاث ليال بحياتي ركبت سيارتي وأنا أنظر إلى نور الصبح وكأني وليد رددت تحيتها ثم أخرجت هاتفي المحمول عن صمته وكتبت على شاشته ثلاث عبارات أرسلتها ووصلت عبر الأثير لتقول : أحبكِ ..اشتقت إليكِ ..أنا آسف بينما كانت السيارة تشق طريقها الذي أعلنت عنه تلك اللافتة الزرقاء المائلة على جانب الطريق ..
ساحة النقاش