بقلم: أحمد زكريا
مشهد أول: في برج لندن، تحاول أن تدافع عن نفسها، بعد أن فشلت في الإتيان بصبي لمليكها، آن بولين، تلقى مصيرها المحتوم، تُعدَم، ملكة إنجلترا التي رأها زوجها ساقطة بعد محاولة ممارسة الرذيلة مع عدة رجال، هنري بيرسي، و أخيها توماس بولين، سقطت ملكة إنجلترا غير مأسوف عليها من الملك !!
مشهد ثانٍ: فانتين تحاول البحث عن عمل، ربما تحاول البحث بشكل أكثر إلحاحــًا عن مال، بأي طريقة كانت، ينظرون إليها و هم جالسون داخل الحانة، ينظرون إليها باشمئزاز لا نهائي، فجمالها لم يعد مكتملاً، و شرفها الذي أسالته يدُ رجلٍ لا يعلمونه، تسير متلهفة بين أقدامهم حتى تحصل على أي أموال قد تساعدها في حل أزمتها. يقترب منها أحدهم- لم يكُ ثملاً- و يتحدث إليها: بكم تريدين أن أقضي معكِ ليلة؟ لم ترد عليه، يضحك بصوت عالٍ حتى ينظر إليه الماكثين في الحانة ثم يقول: أنتِ لا تساوين شيئــًا أيتها الساقطة !!
مشهد ثالث: و هو شبه طريح على منضدته موضوع عليها الكحول، و وجهه الشاحب، و سعاله القاتل، نيكولاي ديمتريفيتش ليفين يتحدث إلى أخيه الأصغر كونستانتين عن حياته و مرضه و زوجته الساقطة التي أتى بها من أحد بيوت الدعارة. ربما تكون سقطة في وجه عائلة ذات نسب وجاه. مرض نيكولاي جعل أخيه الصغير يأتيه طائعــًا كي يحاول علاجه، لكنه رفض أن تنتقل زوجته الساقطة معه!!
مشهد رابع: أوهام التي ما فتئت أن وجدت هذا الرجل الذي أحبها و أحترمها، رغم رؤية المجتمع لها كساقطة، حتى كان ينتظرها قدرها المحتوم. أخوها الذي ما لبث أن خرج من السجن فعرف عن حكاية أوهام التي تحولت لواقع مرير لم تستسغه نفسه. قتل الساقطة !!
مشهد خامس: في زنزانة وسط فتيات ليل القاهرة الملكية، تجلس وسطهن، تملأها الرجفة، ليست مثلهن و إن فعلت، هن ساقطات، هي لا. نفيسة تلتقي مع شقيقها ضابط الحربية في قسم البوليس، حسنين يرى هول الفاجعة في أخته. و لأنهم ليسوا من ذوات الحسب و النسب، و لأنهم من سِفلة القوم، لا يملكون سوى الشرف، فالموت هو الذي سيمحي هذا العار. حسنين يجبر نفيسة على الانتحار. رأى موت أخته الساقطة !!
------
لا تختلف حكايا الليلة عن يوم أمس، و كأن لذة تخترق عقولنا فيحلو لنا الاستماع لحكاية نعرفها، ربما لا نوافق، ربما لا نرى فيها اتساقــًا مع مبادئنا و أخلاقنا، لكننا لا نزال نعشق الانصات و الغوص في حكاياهم.
هي الساقطة، لماذا؟ لأنها أسقطت شرفها أم أُسقط منها رغمــًا عنها!!
و هل تفعل امرأة شيئــًا رغمــًا عنها ؟ هي من تريد ذلك !!
و لماذا يسقط الشرف أصلاً؟
و ما الشرف أصلاً؟
ما قبل ظهور الأديان ... كيف كان الشرف، وكيف كانت الساقطة ؟
ربما لأن التفاحة " مؤنث " أيضــًا ؟
تفاحة أدم التي أغوته و أخرجته من الجنة، هل كانت حواء هي السبب، أم أن ضعف أدم أيضــًا و نسيانه كلمات الله أدت به إلى نزول الأرض.
هذه الرواية – الخرقاء- التي يرى فيها البعض أن حواء هي من أغوت أدم ليأكل التفاحة، ربما أصلّت بمرور الوقت لفكرة غواية المرأة و عِظَم هذا الجزء في تكوينها.
هذا الضلال المزعوم تجاه المرأة و الذي كرس هذه الصورة عن الأنثى التي تجعل الذكر في موقف أخلاقي مهين و أن المرأة هي الخطاءة صاحبة الموقف الأخلاقي المنحط دومــًا
الشرف في اللغة له معانٍ كثيرة، تتمحور حول فكرة الرأس المرفوعة و المكانة العالية بين القوم.
من أين جاءت مسألة ارتباط الشرف بجسد الفتاة ؟
في عصور ما قبل التاريخ كان الرجل يتزوج أكثر من امرأة و كانت المرأة كذلك في نفس الوقت، وسمي هذا الأمر بـ " الزواج الجماعي"
قبل أن يصبح الأب هو من يُحمَل اسمه، كانت الأم هي أصل الأسرة و كان الأبناء يُنسبون إليها، الأم هي التي تلد و ترضع، هي أم هذا الطفل أما الأب في هذا النظام " الزواج الجماعي" لم يكن معروفــًا، لم تكن المرأة ساقطة في هذا التوقيت بل كانت هي الأهم مكانة و الأكثر توقيرًا بين سكان القبيلة والعشيرة!!
مع تطور المجتمع و اتساعه، تحول الرجل من مجرد طرف يشارك المرأة إلى طرف يهيمن له اليد الطولي.. كيف ؟
ازدادت اهتمامات المجتمعات الصغيرة و تطلعاتها، و بدأت مرحلة الغزو للقبائل المجاورة، وكان الذكور هم من يقومون بهذه المهمة في أغلب الأحيان، مما أعطاهم قدرًا من القوة، جعلتهم يأخذون حق نسب أطفالهم إليهم، بل أن الذكر فرض على الإناث فكرة ملكيته لها، ولا يشاركه فيها أي رجل آخر، لكن هو بالطبع له الحق في أن يمارس متعته الجنسية مع إناث أخريات !!
الوحدانية في الزواج مفروضة على المرأة – كما تقول الدكتورة نوال السعداوي – أما الذكر فله كل الحق في أن يفعل ما يشاء، يتزوج، و يحرم المرأة من أطفالها، ينسب الطفل له بالرغم من أنه نما في أحشائها هي و لم يفعل هو أي شيء سوى أنه وضع حيواناته المنوية داخل رحمها !!
بات الذكر وصيــًا على المرأة حتى من قبل ظهور الأديان، لأنه أصبح أكثر قوة، يمتلك هو الاقتصاد و الأرض و المرأة لا تملك شيئـًا، تحصل على المال منه، إذًا القيود تزداد أكثر، والملكية تزداد أكثر، هي ملكه هو فقط، أي فعل خارج إطار علاقتها به، هو رذيلة، فعلها مصيره الرجم و القتل، هي الساقطة لأنها باتت الأضعف !!
ربما يكون التفسير الاقتصادي لعلاقة الذكر بالأنثى فيه قدر من القصور لكنه الأكثر منطقية، لأن التفسيرات الدينية و الاجتماعية تفتقد إلى هذا المنطق !!
و لأن الأنثى كعروس الحلوى، فكسرها يسير
عندما كنت صغيرًا، لا أتذكر تحديدًا كم كان عُمري، سمعت جدتي، أم والدتي، تقول لي : البنت زي العروسة الحلاوة، لازم تفضل ملفوفة بالسلوفان عشان ما يجيش عليها الدبان " الذباب". لا يمكنني أن أنكر تأثري الشديد بهذه العبارة عندما قالتها لي جدتي، لم يقلها لي جدي مثلاً أو أبي، بل أنثى، مثل باقي الإناث، تعاني نفس المعاناة في دورتها الشهرية، و أثناء الحمل و الوضع. هي أيضــًا تلك الأنثى التي حاربت "آنا" عندما أحبت "فرونسكي"، السيدة فرونسكايا التي لم ترى في " آنا" سوى عشيقة لابنها الضابط ذو الوضع الاجتماعي المرموق، و لم ترى فيها أيضــًا سوى زوجة ضالة لرجل دولة شريف، السيد أليكساي أليكسندروفيتش كارنينا.
عروس الحلوى يمكن كسرها بسهولة، وهكذا الأنثى، قُم بطعنها في شرفها، تكسرها، شرفها هو جسدها.
لا أعرف لماذا لم تقل لي جدتي أن هناك حلوى ذكور أيضــًا و يمكن كسرها، و أن العبث بها لا يختلف عن العبث بأنثى الحلوى و أن الذباب عندما يأتي لا يفرق بين ذكر أو أنثى !!؟؟
و لأن الذكر أرفع مكانًــًا، فالفتاة المسترجلة ملعونة
عندما تكون الأنثى بطبيعتها التي تعودناها عليها، تملأها الأنوثة و الرقة والحياء، لا يكاد صوتها يُسمَع، يبدو عليها الضعف و المسكنة، لقمة سائغة إن جاز التعبير، تصبح نموذجــًا مثاليـًا للذكر. أما الأنثى التي تفكر كما الذكر - و قد أثبتت الأبحاث العلمية أن في كل ذكر هرمونات أنثى و في كل أنثى هرمونات ذكر- فهي قد فقدت أنوثتها، يلفظها المجتمع لأن أصبحت كالذكر وهذا ليس من الفطرة – التي يطرزونها وفق أهوائهم – في شيء.
هو صراع القوة أولاً ثم قُل النوع بعد ذلك
كان العبيد قديمــًا منذ الحضارات السومرية والفرعونية و الصينية يتم إخصاؤهم و ذلك لأسباب عدة، منها ضمان عدم وصولهم لسدة الحكم لأنهم لن ينجحوا في أي حالة أن ينجبوا، كذلك يقومون بوظائف مثل قص شعر الحاكم و مساعدته في الاستحمام، كما أن إخصاءهم قد يجعلهم يقومون بوظائف حماية نساء الحاكم دون خوف على النساء منهم، فهم مخصيون، هم حراس الحريم !!
القرن الحادي و العشرين، الشرف يقتل أيضــًا !!
في عام 2000 قدرت الأمم المتحدة جرائم الشرف الواقعة سنويــًا حوالي 5000 جريمة
في عام 2009 نشرت دراسة لكاتبة أردنية " رنا حسيني" تشير إلى أن 13 امرأة تُقتل يوميــًا بسبب جرائم الشرف
في أحيان عديدة عندما يتم معاقبة الفتاة على جريمة الشرف، لا يتم قتلها مباشرة، بل يتم تعذيبها أولا، و قد أوضحت إحدى الدراسات أن حوالي 1/3 من هؤلاء الفتيات يتم تعذيبهم قبل قتلهم في أمريكا الشمالية. أما في أوروبا فالنسبة تصل للثلثين، أما في العالم المسلم فتصل النسبة إلى النصف تقريبــًا.
الشرف المنتهك في عيونهم حتى لو كان رغمــًا عنها، لا يعفيها من المساءلة و الحساب و الرجم، اغتصابها و انتهاكها بدنيًا و نفسيـًا لا يكفي، فحساب المجتمع أقسى و أكثر !!
في عالمنا العربي و الإسلامي عبارة " Too western" هي مسألة قد تجلب على المرأة الكثير من اللعنات و الشتم و اللفظ و الإقصاء، فهي تتحلى بقيم الغرب المنحل، و لأنها تمارس عادات غربية بشكل مبالغ، فحق عليها أن تقتل أو تُلفظ من المجتمع، فهي ساقطة في عيون المجتمع. أما الذكر لو كان Too western لا مشكلة، فهو رجل ، السقوط غير موجود في قاموس ذكوريته !!
لو أن الأنثى هي الأقوى فسيولوجيــًا، و هي التي تقوم بدور الذكر منذ بداية الخليقة، كيف كنا سنرى الأمور؟
كان الذكر هو الذي سيقع عليه القهر و الأنثى هي التي ستمارس أنثويتها القاهرة ؟
لماذا لا يكون الرجل ساقطــًا أيضــًا ؟ لماذا لا يُحاسب على سقطاته الأخلاقية كما المرأة؟
لماذا لا يرى المجتمع في الرجل الذي يمارس الفحشاء ساقطــًا؟ لماذا لا يلفظه المجتمع؟
حتى السينما التي حاولت أن ترصد هذا الأمر، الرجل الساقط أو بمعنى أدق عندما يمارس الذكر دور العاهر"Whore"، و لم أرى من بينها سينما عربية، بل كانت سينما غربية، لم ألحظ في هذه الأفلام أي نقد مجتمعي للرجل أو اقصاء له.
---
آنا كارنينا و إن رآها مجتمعها ساقطة، إلا أنهم هم الساقطون أخلاقيــًا، لأن قواعدهم التي وضعوها حاولت أن تستر سقطاتهم الأخلاقية التي مازالوا يمارسونها، فشقيق "آنا" الأمير "ستيفا" الذي سقط أخلاقيـًا مع مربية منزله، لم يحاسبه المجتمع، و أيضــًا نفس المجتمع لم يحاسب الضابط الوسيم " فرونسكي" عن سقوطه الأخلاقي مع "آنا" لكنه حاسبها هي وحدها، لماذا؟ ببساطة لأن الأقوياء هم من كانوا يملكون سلطة الحساب والعقاب، فزوجها الكسندروفيتش السياسي المرموق أصدر حكمه عليها و كذلك الكونتيسة فرونسكايا أصدرت حكمها على آنا بالسقوط الأخلاقي، و إن عاتبت ابنها روفنسكي إلا أنه لم يكن ساقطــًا في نظرها ونظر مجتمعها.
السقوط سقوط مجتمعي وليس أنثوي !!
ساحة النقاش