كتب_ عمرو أحمد عوض
أثناء إحدى الحصص التدريبية عن صناعة الرأى العام سٌئل المشاركون سؤال تقليدى عن أيهم أكثر أهمية المال أم الصحة؟ فاختار معظم المشاركون بالطبع الصحة وساقوا عدداً كبيرا من الأدلة على رأيهم أهمها أن المال لن يفيد شخصا غير قادر على الاستمتاع به بسبب اعتلال صحته .. كان الهدف التعرف على مدى قدرة الافراد على مواجهة الضغط و الثبات على رأيهم .. بعد ساعتين من المناقشات الحادة التى قادها "رئيس الجلسة" صاحب الشخصية القوية لصالح اختيار المال, اضطر معظم المشاركين الى تغيير ارائهم, و فى التصويت النهائى ظل ثلاثة اشخاص فقط من اصل عشرة ملتزمين برأيهم الاول!!
المتابع للوضع السياسى فى مصر منذ قيام ثورة يناير يمكنه رؤية التحولات الدرامية التى شهدها الشارع خلال مدة قصيرة نسبيا. فخلال عام واحد انتقل الشارع من التأييد التام للثورة ورفض اى اشارة الى استمرارية مبارك ودولته فى الحياة السياسية الى التحسر على ايامه والتغنى بذكر محاسن نظامه الى الدرجة التى اوصلت عددا من رجال هذا النظام الى الانتخابات الرئاسية بل كاد احدهم ان يظفر بها, و خلال عام واحد ايضا تحولت جماعة الاخوان المسلمين من القوة السياسية الاكثر شعبية بلا منازع الى القوة السياسية الاكثر كرها من الشارع بلا منازع ايضا.
هذه التحولات يمكن ارجاعها الى اسباب مباشرة تتعلق بضعف الخبرة السياسية و الفشل فى ادارة الازمات المتلاحقة و أن حجم الانجاز الذى تحقق كان اقل بكثير من حجم الامال التى عقدها الشعب. الا ان هذه الاسباب على اهميتها لم تكن لتحقق هذا التقلب الشعبى السريع لولا الخلل الواسع فى قدرات ووسائل صناعة الرأى العام بين اطراف العملية السياسية.
يشير المفكر السياسى ناعوم تشومسكى فى مقدمة كتابه "السيطرة على الاعلام" الى عملية صناعة الاجماع عن طريق الاعلام التى بدأت فى عصر الرئيس الامريكى وودرو ويلسون عام 1916 لتغيير الطبيعة السلمية للمواطنيين الامريكيين من اجل اقناعهم بالمشاركة فى الحرب العالمية الاولى "فقامت ادارة ويلسون بانشاء لجنة للدعاية الحكومية اطلق عليها (لجنة كريل) و قد نجحت هذه اللجنة خلال ستة اشهر من تحويل المواطنين المسالمين الى مواطنين تتملكهم الهستيريا و التعطش للحرب, و الرغبة فى تدمير كل ما هو المانى, و خوض حرب, وانقاذ العالم". لاحقا تم استخدام هذه الطريقة مرة اخرى ضد الفكر الشيوعى الذى بدأ يظهر فى الولايات المتحدة. "وقد نجح الى حد كبير فى تدمير الاتحادات العمالية و القضاء على بعض المشكلات الخطيرة, مثل حرية الصحافة و حرية الفكر السياسى, وكان هناك تأييد قوى من قبل وسائل الاعلام, وكذلك من قبل مؤسسات رجال الاعمال التى نظمت بل وشجعت جل هذا العمل, وكان بصفة عامة نجاحا عظيما".
و على الرغم من ان درجة النضج السياسى و الاجتماعى يكون لها تأثير نسبى فى مدى فاعلية توجيه الرأى العام الا انه فى النهاية يمكن التحكم فى افراد المجتمع باستخدام ادوات مختلفة تناسب درجة التعليم و الحالة الاجتماعية والاقتصادية لكل فرد على حدة, وفى الواقع المصرى يمكن ملاحظة ذلك بوضوح باعتبار ان كثير من الفئات التى لا يمكن اقناعها بآراء يسرى فودة او يوسف زيدان يمكن اقناعها بآراء توفيق عكاشة, والعكس صحيح. يساهم فى ذلك ان الغالبية العظمى من الافراد بما فيهم الكثيرمن شرائح "المثقفين" المصريين ليس لهم اتجاه فكرى محدد بل تتغير توجاتهم الفكرية تبعا للنظام الحاكم بل و تبعا للمواقف السياسية اليومية, ويكفى ان تسأل اى فرد عادى عن رأيه الشخصى فى مواقف السعودية او ايران من ثورات الدول العربية لتكتشف كم التناقض فقط لمجرد اختلاف سياق الكلام او السياق الزمنى.
فى النهاية لا يتطلب شن الحرب على شخص او فئة او تيار الكثير من الدهاء السياسى و وضع الخطط المستقبلية , كل ما يتطلبه امتلاك ناصية التأثير على اكبر عدد من الادوات الاعلامية و امتلاك التمويل المالى المناسب والتشكيك فى كل شئ يخص الخصم مع تنويع مصادر "الخبر" و " الرأى" التى تصب فى نفس الاتجاه.
ساحة النقاش