كتبت_ بسمة توفيق

خرج (الناجي) ليجد أمه بطلة لعراك كبير اشتركت فيه مع زوجة أخيه ضد مستأجر مسن سكن شقة الطابق الأرضي في بيتهم القديم وكانت هي تخطط لطرده والاستحواذ على البيت ثم هدمه والتصرف في الأرض على نحو لم يكن يعلمه لكن ما يعلمه أن هذا العجوز لا ذنب له في مطامع والدته التي تخطط لوضع يدها على ما لا تملك فالبيت والأرض لأبيه وفي خضم العراك الذي قام بالأساس من أجل الغسيل المبتل في شرفة أخيه رن هاتف والدته المحمول - الذي لم يعد يفارق يدها- وفي وقت مستقطع صمتت بعد طول صياح وماهي إلا هنيهة وخرجت من حنجرتها صيحة مختلفة أخذت تستدمع عينيها على أثرها لتعلن للشارع المتابع لأفعالها عن كثب  أن زوجها مات ....مات مريضاً وغريباً .

اتشح كل شئ بالسواد ، فهذه هي التقاليد ، كل شئ صار سواداً في سواد وحتى جفون الأرملة لم تنسى الكحل والعباءة السوداء الفخمة ولم يخل حدادها من المصاغ فكان العزاء عبارة عن استعراض لكل شئ للفيلا والسيارات والبهرج الخداع الذي كسا الأشياء والبشر و وقف الأبناء في سرادق العزاء الذي قطع الطريق وعرقل حركة المشاه والراكبين الراغبين في دخول الشارع الذي تحول بدوره إلى موقف لمختلف أنواع السيارات التي تعرض لمَن يراها مدى تشعب علاقات العائلة فهاهي المرسيدس والشيروكي والبي ام دابليو وها هي سيارة تابعة للشرطة أتت بأحد المعزيين لزوج الأخت الكبرى ، وفي الداخل جلست الأم في صدر المجلس لا لتلقي العزاء لكن لتكون كما اعتادت مركزاً للكون وتتابع عن كثب تهامس زوجة ابنها بشأن الميراث وانشغال ابنتها الكبرى بزوجها وخط سيره والعراك معه والتخطيط لمفاتحتها بشأن البيت القديم وتعتصر عينيها بحثاً عن دموع بمنديل مطرز بالذهب غير آبهة بابنتها فرح التى جلست تبكي بين قدميها في لوعة على الأب الذي عاشت حياتها يتيمة محرومة منه ومات غريباً بعيداً عنها دون أن تكون له متكئاً في آخر أيامه   وعلى النقيض منها   كانت كل امرأة في هذا العزاء تبكي نفسها لا الميت الذي لم يأتِ جثمانه من الخارج بعد .

كانت الأم لا تأبه بمكان دفن زوجها فطلبت من ولدها السفر ودفنه حيث مات وقبل سفر الابن كانت مكالمة تعلمهم بوصية الأب الذي طلب أن يُوَارى الثرى في وطنه وأن جثمانه سيصل إلى مطار القاهرة في اليوم التالي وهكذا اكتملت مسيرة الحداد الزائف إلى المطار تتقدمها الأم بنظارة سوداء ذات ماركة عالمية تناغمت مع العباءة الخليجية الطراز وطلاء الشفاه  الداكن المناسب للحداد من وجهة نظرها وهكذا وقفت ابنتها الكبرى إلى جانبها بنفس الأناقة المتعجرفة بينما لم تستطع فرح الصمود أمام جلال الموت وأخذها البكاء من أخيها التوأم وزوجها اللذين وقفا إلى جانبها فأبرزا الفجوة التي تعصف بهذه العائلة فمع الأم وقف النفوذ والمال وبقايا الجمال ومع فرح كان الحب والحنان وصدق الدمع وكلهم وقفوا أمام الموت سواسية  بنظارات سوداء .......طال الانتظار ، ثم هبطت الطائرة وبعد الاجراءات ، حضر الجثمان ولكنه لم يكن بمفرده ، كان بصحبة امرأة ثلاثينية تقارب فرح في العمر اتشحت بالسواد من قمة رأسها حتى أخمص قدميها وأخذت تقترب وتقترب وسط حالة من الذهول سادت الجميع ماعدا الابن الأصغر الناجي من الذهول والصدمة والحسرة فقد كانت القادمة هي زوجة أبيه التي جعلت الأرض تميد بوالدته وهو ما لم يقدر عليه مخلوق قبلها فقد خرت مغشياً عليها بعد آهة كبيرة انطلقت من قلبها لم يسمع لها مثيلاً من قبل .

أيام طويلة مضت على الأسرة ظلت الأم خلالها طريحة الفراش لا تقوى على الحركة وانفض من حولها الناس إلا مَن رحم ربي من الجيران القدامى ومنهم لسخرية القدر المسن العجوز مستأجر شقة الطابق الأرضي  فلم تجد في ابنتها الكبرى إلا الجحود والعتو  والنفور  أما زوجة ابنها فقد فرت بمصاغها إلى بيت أبيها طالبة الانفصال، فقد ذهب المال إلى ضرتها الصغيرة بوصية من زوجها المتوفى وبقيت هي تندب حالها وتشكو غدر الزمن في بيتها القديم  كلما استفاقت من غيبوبتها وبقي الاستديو مغلقاً وداخله غرفة التحميض مفتوحة حتى مرت عليه فرح وأخذت تستعيد ذكريات طفولتها في الشارع وأمام المنزل وزوجها معها يشد على يدها ولسان حاله يقول لها : لا تخافي أنا معك نظرت له بامتنان ثم صعدت الهوينى إلى حيث شقتهم القديمة ومعها حقيبة سفر صغيرة لتمكث مع والدتها المريضة واستقبلها توأمها ودخلوا جميعاً إلى غرفة الأم النائمة بلا حراك في منظر أبكى ابنتها وأيقظها لتطلب منها السماح على ظلمها لها وجورها عليها في زواجها حين فضلت حبيبها الفقير وأصرت فعانت ثم انتصرت في النهاية وعندما ذُكِر فرح (فرح) وسط الدموع وشهامة الزوج وغدر الزمن.

نزل (الناجي) بناء على رغبة أخته إلى الاستديو ففتح بابه الخارجي وهو يستعيد كلمات أمه عن المال والعيال والنفوذ عجباً إنه  لم يسمعها مرة تتحدث عن الحب ومن ثَم فما كانت صدمتها بعد وفاة أبيه إلا صدمة مَن استعاد الذاكرة بعد فقد طويل ليكتشف هويته الحقيقية فأمه اكتشفت أنها امرأة فجأة وآلمها ذلك آلمها ضعفها وانهيار عش العنكبوت التي كانت تحيا داخله ، على باب الاستديو من الداخل اصطدمت قدم الناجي في الظلام بمظروف كبير فتحه ليجد اعلاناً عن مسابقة دولية للتصوير الفوتوغرافي نظر إليه في عجب وحبور جعله يكمل خطواته إلى الداخل متذكراً كيف كانت توأمه تشجعه على المضي في هذا المجال وتحلم معه بالوصول إلى العالمية ابتسم ونزل دمعه لتذكره أول كاميرا اشترتها له وكيف كسرتها أمه لأنها لا تريده مصوراً كأبيه لا تريده فقيراً لا تريده في حيهم القديم  ، ومر الزمان وعادت هي إلى البيت القديم والحي القديم وبقي هذا الاستديو العائل الوحيد لها كما كان قديماً  (سبحان الله) نطقها بصوت عال وهو يدلف إلى حجرة التحميض ليجد الصور قد أفسدها الضوء لا بأس إنه يحتفظ بالنيجاتيف مممم ما هذا إنها صورة العائلة ماذا جرى ؟ لقد اختفى كل مَن فيها بفعل الضوء إلا ابتسامة فرح بقيت حية ساطعة تغالب كل شئ وهكذا تحررت الصورة من مظاهر الغش والكذب والنفاق وبقيت صورة فرح ! 

shababwenos

شباب ونص - مجلة ثقافية وشبابية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1036 مشاهدة
نشرت فى 30 نوفمبر 2013 بواسطة shababwenos

ساحة النقاش

Shababwenos

shababwenos
بنفكر في اللي بتفكر فيه، وبنقولك اللي محدش مهتم بيه.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,035,447

ما الطريقة السليمة لغسل اليد؟