كتب_عمرو أحمد
خلال مراحل التاريخ المختلفة كانت الشعوب دائما ما تبحث عن قائد وزعيم تعقد آمالها عليه فى تحقيق طموحاتها و أهدافها. ومع بدايات القرن العشرين و قبيل قيام الثورة البلشفية فى روسيا عام 1917 ظهر مصطلح عصر الجماهير، والذى يشير الى تغير شكل العلاقة بين القائد والجماعة فعلى عكس كل الحضارات البشرية السابقة التى كانت تقوم على أيدى فئة قليلة من القادة الأرستقراطيين فإن المستقبل سوف يشهد دورا كبيرا للطبقات الشعبية فى إدارة شئون الدولة وتغيير شكل المجتمع. وعلى الرغم من أن الثورة الروسية قامت اساساً لتحقيق هذا الهدف إلا أن النظام الذى تولى الحكم قوض هذه الفكرة تماما فيما بعد و لم يعد للشعب أى دور سوى الطاعة العمياء حتى سقوط الإتحاد السوفييتى، الإ أن هذه الفكرة واصلت تطورها فى الدول التى إتبعت النظام الديمقراطى، حيث اختفت إلى حد كبير ظاهرة الزعيم الملهم و حلت محلها أفكار المسئولية الجماعية و تبدل القادة بشكل دورى ومستمر.
يجيب عالم الإجتماع الفرنسى الشهير جوستاف لوبون فى كتابه "علم نفس الجماهير" الصادر عام 1895 على سؤال محورى - ربما يتبادر الى الأذهان الآن فى مصر - و هو ما الذى يمكن ان يدفع جمهور من الأشخاص تختلف مستوياتهم الاجتماعية و العلمية والمادية على الإنصياع لرغبات وأفعال شخص - الزعيم - ومناصرته والتعصب له فيما يقوم به حتى لو وصل الأمر به وبهم إلى القتل أو الحرق أو تدمير البلاد من أجل تحقيق أهدافهم.
النقطة الأساسية فى التحليل تدور حول ماهية "الجمهور النفسى، الذى يتكون من عظام الناس كما من أدنيائهم، إنما يشتغل وفق نمط جمعى لا شعورى، يفقد فيه البشر فرادتهم الذاتية وتذوب كفاءاتهم العقلية فى الروح الجماعية وعلى هذا النحو يمكن أن نفهم كيف ينحل ذكاء الفرد المفرد فى المجموع، فيتصرف تصرفات أو يقبل بقرارات جماعية بلهاء ما كان ليقبل بها لو بقى على فرادته أو حسه النقدى الذاتى. ولكن ما يخسره الجمهور النفسى من حيث الذكاء يربحه فى الغالب من حيث الشعور بالقوة التى يكتسبها عن طريق العدد مما يجعل الفرد العادى ينصاع بسهولة لبعض الغرائز التى تدفعه الى اعمال وحشية، وهذا العنف الجماعى يجد تفسيره فى كون الجمهور مغفلاً بطبيعته، وبالتالى غير مسئول، وبما أن الحس بالمسئولية هو الذى يردع الأفراد، فإنه يختفى فى هذه الحالة كلياً".
وإنطلاقا من فرضية أن اللاشعور هو المسيطر الأساسى على الجمهور النفسى بشكل أقرب ما يكون للتنويم المغناطيسى فإن القائد هنا يلعب دور الشخص الذى يقوم بعملية التنويم، وبما أن الميكافيلية السياسية هى المسيطرة على معظم القادة فان النتائج قد تكون كارثية فى بعض الأحيان.
والمثال المشهور الذى يضرب للتدليل على صحة هذا القول هو كلمة نابليون بونابرت: "لم أستطع إنهاء حرب الفانديه إلا بعد أن تظاهرت بأنى كاثوليكى حقيقى. ولم أستطع الإستقرار فى مصر الإ بعد ان تظاهرت بأنى مسلم تقى. وعندما تظاهرت بأنى بابوى متطرف إستطعت ان أكسب ثقة الكهنة فى ايطاليا. ولو أنه اتُيح لى أن أحكم شعبا من اليهود لأعدت من جديد هيكل سليمان."
و ترتبط فكرة القائد البطل هذه مع فكرة اخرى وهى الحنين إلى قادة الماضى، والتى لا أعرف إن كانت هذه خاصية تميز مصر فقط أم أنها ظاهرة عالمية، فلا تكاد تسمع هذه الأيام حديثاً عن نظام مبارك إلا و تُذكر تلك الايام الرائعة التى نعمت فيها مصر بالأمن والأمان وكيف كانت مواقفه الذكية الحكيمة تجنب مصر الدخول فى مشاكل دولية و أنه على الرغم من فساده كان قادراً على إدارة البلاد نحو الأفضل. من الممكن تقبل هذه الكلمات إذا صدرت عن أنصار مبارك الذين ظلوا على ولائهم له حتى أيام ثورة يناير أما ما لا يمكن تصوره أن يكون هذا رأى جزء كبير ممن ساندوا الثورة ضده. ويمكن تتبع هذه الظاهرة فى أزمنة سياسية مختلفة فمثلا ظل الناس يذكرون النظام الملكى فى مصر مصحوباً بذكر محاسن هذا النظام بأشياء من قبيل أن مصر كانت فى قمة المجد حيث الجنيه كان أعلى قيمة من الدولار و حيث القاهرة أحد أجمل عواصم العالم وأن الموضة فى القاهرة كانت أحيانا تسبق باريس ...إلخ. وعلى الرغم من أن بعض هذه المعلومات قد تكون صحيحة الا انها تخفى عن عمد مساوئ لا يمكن إغفالها منها حقيقة أن مصر كانت محتلة من الإنجليز و أن الملك وحاشيته كانوا فاسدين و أن مصر هُزمت و ضاعت فلسطين فى عام 1948 كنتيجة مباشرة لهذا الفساد وأن طبقة صغيرة من الإقطاعيين استعبدت عامة الشعب. على الرغم من هذا الا ان الحنين الى نظام الملك ظل فى عقول المصريين فترة طويلة حتى لدى اولئك الذين أضُيروا او أضُير أبائهم من فساد وطغيان هذا النظام.
لا أعرف تحديداً ما هى الأسباب النفسية التى تدفع الى مثل هذا النمط الفكرى إلا أن أحد التفسيرات يشير الى أن الناس لا يخافون من الماضى ببساطة لأنه لا يمكن أن يضرهم مجدداً وبالتالى فنحن لا نذكر الماضى كما كان فعلاً بل نتذكر فقط ما نريد تذكره ونهمل الذكريات السلبية، أما إحتمالات وقوع الضرر فى الحاضر و المستقبل فهى قائمة، و بالتالى فإن أحد طرق العقل للهروب من الحاضر هى الحنين إلى الماضى وتذكر مدى روعته و جماله و كيف كان قادة هذا الماضى أبطالاً عظام حتى لو لم تكن هذه هى الحقيقة فعلاً.
ساحة النقاش