كتب :هاني كشك

الحائط .. الحائط .. الحائط 

تظل تردد الكلمة إلى أن تصل اليه فتقف وتلتصق به وكأن به تجويف يبتلعها فتغوص في أعماقه و تختفي فلا يلاحظها المارة . تبدو هي و الحائط كسطح مستو من شدة التصاقها به .

تنظر إلى المارة في حالة من التلصص لا تريد لأحد أن يراها وكأنها تستر من شىء قد فعلته أو كأن الناس يبحثون عنها هي .. فقط هي ... تميل برأسها إلى الامام و كأنها تراقب حركة الشارع ثم تعود مرة أخرى برأسها إلى الحائط فتشعر بالأمان .. دقات قلبها تتزايد و انفاسها سريعة و عيناها زائغتين فتشعر بذراع الحائط تحتضنها فيعود الهدوء اليها و تشعر أن كل شىء على مايرام .. كثيراً ما كانت تشكى همومها الى هذا الحائط الاصم الذى لا يسمعها ولكنها تشعر براحة شديدة و هي تتحدث اليه فإذا لاحظ المارة انها تتحدث الى نفسها صمتت . هم ينظرون اليها و كأنها مجنونة فكيف تتحدث إلى الحائط و لكنها تعلم أنه يسمعها وويحدثها  ولكنهم لايسمعونه.

الحائط .. الحائط .. الحائط 

ترددها وهي تعبر الشارع عائدة من مدرستها .. تلتفت وراءها كثيراً و كأنها تتوقع أن شخصاً ما يطاردها .. سيمسك بها .. سيخطفها إلى حيث الساحرة الشريرة التى تسمع عنها في الحكايات .. تسرع الخطى إلى أن تصل إلى الرصيف فتسير بجوار الحائط لا يؤنس وحدتها إلا ظلها على الحائط .. يدها الصغيرة تلمس الحائط في رفق وكأنها تتأكد أنه لم يختلف عن الامس .. تصعد فوق رصيف ثم تهبط منه و لكنها في النهاية ملتزمة بالحائط .. تعدو أحياناً بقدماها الصغيرتين التى تبدو فيهما رعشة إلى أن تصل إلى منزلها فتدخل و توصد الباب . 

ما الذى يحدث وراء الباب ؟ من وراء الباب ؟ هل تلتصق بالحائط ايضاً وراء الباب ؟ 

لا أحد يعرف شيء ...

طفلة في الثامنة من عمرها .. خمرية اللون .. نحيفة .. ضفائرها مجدولة بإهمال .. ملابسها غير نظيفة في معظم الاوقات .. تحمل كتبها في حقيبة ممزقة .. تتلعثم في الكلام إذا تكلمت .. بعينيها لمعة الدموع .. تبدو أحياناً كما لو أنها لا تنام .. مرهقة .. حزينة .

صغيرتى لماذا تبدين أنت و الحائط كرسومات الجرافيك كل واحدة منها تحكي لنا حكاية ؟

حينما نسمعها و هي تردد الكلمة نشعر وكأن الوصول إلى الحائط أصبح هدفاً في حد ذاته .. ربما يكون الحائط خط النهاية التى تشعر عنده بأنها أنجزت مهمتها وقد يكون هو خط البداية التى ستنطلق منه إلى حائط اخر . كل حائط في هذا الشارع كان له دور في حياتها و وحدتها في يوم ما. فهذا يحمل اسراراً لها لم يبح بها لأحد وهذا خطت عليه شىء ثم محت معالم الحروف سريعاً وكأنها لاتريد أن تترك أى اثر لها على أى حائط قد نفهم منه سبب ارتباطها به . 

تغنى ؟ .. نعم تغنى .. احياناً نسمعها و هي تغنى .. صوتها جميل .. رقيق .. صادق دون تمثيل .. هادىء دون إنفعال .. تشعر بجمال الكلمات .. لديها حس مرهف .. صوتها يعلو في نغم متناسق ...تغنى و كأنها على المسرح و تتحرك وهي تمسك بقلم صغير و كأنه ميكرفون .. تلاحظ أننا نتابعها بعيون تشجعها لتستمر ..  فتتوقف عن الغناء  وتصمت .. ليس هذا صمت الخجل . ولكنه صمت الشعور بأنها أخطأت . ثم تعود إلى الحائط وتغمض عينيها .

ترقص ؟ .. نعم ترقص .. في الصباح ترقص وهي تنتظر سيارة المدرسة .. تتحرك مثل الفراشة .. ترفع يدها فتلمس شعاع الشمس الذهبى ثم تهبط بيدها فتنثره على الارض .. تتحرك يميناً فتتحرك أوراق الشجر في نفس إتجاه حركتها .. تتحرك يساراً فتتفتح ورود الربيع في غير اوانها .. ولكن هذا اونها فهي ترقص .. سعيدة .. تلاحظ أننا نتابعها بعيون تشجعها لتستمر .. فتتوقف عن الرقص و كأن نجاراً ضرب بمسمار صلب قدمها فثبتت .. أو كأن جذورها إمتدت إلى أعماق الارض . ليس هذا ثبات الخجل .. ولكنه ثبات الشعور بأنها أخطأت. ثم تعود إلى الحائط وتغمض عينيها .

حاول العديد من الفتيات في مثل سنها الاقتراب منها ليتعرفن عليها و يلعبن معاً البعض منهن يقدم لها حلوى أو لعبة صغيرة و بعضهن يمارس معها لعبة القوة المفضلة لدى اطفال الصغار حينما يتولد داخلهم شعور بأن هذا الطفل ضعيف وهو فرصة لفرض سيطرتنا عليه فتجذبها واحدة منهن وهي تنظر اليه نظرة حادة وتسألها في عنف ..

( هل تسمعين ؟ هل تتكلمين ؟ ) 

كلها محاولات لفرض واقع عليها لاتستطيع هي أن تتأقلم معه ولكنها دائماً تكتفتى بسماعهن و هي ترمش بعينيها بسرعة .. ثم تغمض عينيها و تتركهن سريعاً .. 

صغيرتى لما تهربين ؟ .. و الى أين تذهبين ؟ لماذا تنسجين حول نفسك كل هذا الغموض ؟ 

حينما تقف إلى الحائط تنظر إلينا وكأننا مذنبين .. مجرمين .. نشعر في نظراتها لنا بالأحتقار و نشعر ايضاً أننا صغار إلى الحد الذى لا يستطيع أحد أن يرانا بالعين المجردة .. ترسل برسائل صامتة .. أحكام و كأنها قاض على منصة العدالة .. كل الاحكام إعدام أو نفي . تريد أن تقدمنا جميعاً إلى حبل المشنقة أو تنفينا من هذة الارض و تعيش هي وحيدة بعد ذلك .. تحتقرنا و هي لاتعرف أحد فينا ولو عرفتنا لأحتقرتنا أكثر . نبدو أحياناً كما لو كنا نعطف عليها ولكننا لسنا كذلك لأننا في أحياناً كثيرة نبدو كما لو كنا لا نراها أو أننا نراها دون إهتمام بل أن البعض يزيحها من طريقة وكأنها تقف في وجهه أو تعطله .. أى عطلة تلك .. فهي تلتزم بالحائط وتلتصق به .. ولكن عجلة الحياة أسرع منها . 

تقف إلى الحائط وتنظر إلينا وكأنها ممثلة على مسرح .. هي الممثلة الوحيدة على المسرح .. ونحن المتفرجون نستمتع بالنظر إليها .. فقط ننظر إليها ولانحاول الاقتراب .. أحياناً نشعر بأنها تريد أن تتكلم ثم سريعاً ما تتراجع وتشعر وكأن كلامها لن يسمعه أحد في هذة الحالة نبدو نحن كمتلهفين ثم نفقد لهفتنا ونبدو ناقمين عليها .

نعم نحن فضوليون ..ولكنها وفرت لنا سبباً للفضول وهو الغموض ..من ينتصر في النهاية فضولنا أم غموضها ؟ .. سنظل نتتبعها بنظرات عيوننا الحادة قد تصرخ فينا و تستسلم في النهاية وتتكلم .. ثم نتركها وحيدة بعد ذلك فقد حطمنا هذا الغموض. هذا كل هدفنا تحطيم الغموض .. يا لنا من بشر جردنا انفسنا من الانسانية . ويالها من إنسانة تنتظر شعور البشرية بها كما يجب .

وبين غموضها و فضولنا ..  تظل تبحث عن احساس ينقصها ..

المصدر: شباب ونص
shababwenos

شباب ونص - مجلة ثقافية وشبابية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1451 مشاهدة
نشرت فى 20 مارس 2014 بواسطة shababwenos

ساحة النقاش

Shababwenos

shababwenos
بنفكر في اللي بتفكر فيه، وبنقولك اللي محدش مهتم بيه.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,120,578

ما الطريقة السليمة لغسل اليد؟