كتبت - بسمة توفيق
جلس (حسين) على الأريكة المواجهة للتلفاز في منزله بأذن صُمَت عن صوته المزعج ، و أخذ يتأمل ما ظنه لوهلة هدية من خطيبته ولم يدرك أنها صفعة ادخرتها له ، فقد أعادت له خاتم الزواج في علبته المخملية التي اختبأت داخل علبة ورقية فخمة بيضاء اللون أُغلِقَت بشريط طويل من الحرير الأسود فتحها ليجد مزيداً من الخيوط الحريرية لم تكن سوى خصلات شعرها فقد ربتها واعتنت به شهوراً وسنوات ثم جزتها بلا رحمة لما صارت عبئاً على عقلها وقلبها و حياتها كلها ، فض الخطيب المهجور رسالة خطيبته السابقة - اشتريت حياتي وبعتك شعري فقد خطبته هو وليس أنا - بينما كانت هي تدلف بخطوات سريعة إلى خارج العقار الذي يسكنه ببنطالها الجينز ومعطفها الجلدي لتستقل دراجتها البخارية وتطير بحرية في شوارع العاصمة مرتدية الخوذة حيث لا يراها أحد ولا يعرفها أحد فهي في هذه اللحظة حرة خارج قيود الزمن والمكان على متن طائرتها "شاهي" !
في الأيام التالية كانت (نسرين) تقضي أغلب ساعات النهار خارج المنزل تجنباً لكلمات أمها اللاذعة والحاحها المستمر لمعرفة سبب فسخها الخطبة وقصها شعرها الذي أضاف سطوراً جديدة لكتاب سخرية أخيها وزوجته منها ، ومضى شهر وشهران وثلاثة وتبدلت الفصول وعلى مشارف الربيع قررت ترك العمل الحكومي وتركته بعد أن أحضرت كعكة فاخرة لزميلاتها رداً على تهامسهم عليها طيلة الشهور والسنوات الماضية ورحلت من بينهم ظافرة بحريتها قوية بابتسامتها ، وقدمت للحصول على درجة الماجستير وكملكة على عرش يتطلب منها رجولة التصرف والعزم في مجتمع ذكوري النزعة أخذت تعد العدة لعمل مشروع عمرها خردوات حريمي صناعة يدوية وبهذه الفكرة ومعها شعرت أنها تحيا من جديد فأعادت الاتصال بزميلات الجامعة وأصدقاء وصديقات الصبا والشباب وبدأ المشروع و...سار بخطى متسارعة ونسيت به ومعه كل ما مضى لم تعد تؤلمها كلمات أمها ولا تهامس الجارات أو تلك الشائعات السخيفة التي لاحقتها مذ تركت (حسين) الذي ادعى بحقارة أنه هو مَن تركها لسوء سلوكها ككل شرقي يسؤه أن تتركه امرأة ويكون الثأر والانتقام خياره الأوحد ، واجهت الجميع ولم تجبن من أحد إلا نفسها فهي تتجنب المكوث وحيدة في غرفتها تهرب من مخدعها من وسادتها تهرب من الصندوق الأسود الذي ينفتح كلما ارتدت منامتها ...حينئذ و في كل ليلة تُبْعَثُ حواء التي وأدتها حية في أعمق أعماق روحها ، تُبْعَثُ لتسعدها وتعذبها وتسكرها بألم الوحدة وانتظار مجهول لا يأتي ، تُبْعَث شهية وطفلة وأثنى ناضجة لتقض مضجعها وتستحثها على نقض كل ما تعزم عليه نهاراً فهاهي ترقص أمام المرآة وتضحك مداعبة شعرها القصير بينما تبلغ الموسيقى ذروتها مع مشاعرها فتطير دمعة من عينها وتلسع يدها معيدة إياها إلى الواقع بعنف جعلها تنتحب بشدة دونما سبب واضح وانثنت على سريرها وغيرت وضعية الوسادة بتمرد فاصطدم بصرها بهاتفها المحمول وتذكرت رغم اعياء النحيب والصداع الذي لف رأسها أنه مغلق منذ شهور ....ومع ذلك فقد أصرت على تجاهله وألقت به على كرسي المرآة ليشكو إهمالأ وإعراضاً هو و (مجدي) فهذا الأخير لم يكف عن الاتصال بها طوال الفترة الماضية وحتى هذه اللحظة التي أمسكت فيها بهاتفها كان يحاول ثم أغلق الباب الخارجي لمشروع عمره (كوافير بيرجيت) وضغط زر تشغيل هاتفه لتغني فيروز خايف أقول اللي في قلبي ويُعدل هو من أوضاع صور الحسناوات وينظر إليهن نظرات خاوية فلم تكن عيناه تنطقان بالحنان إلا لواحدة منهن كانت بالأمس القريب طويلة الشعر ولم تعد كذلك ولم يعلم ، وكانت مخطوبة لسواه ولم تعد ولم يعلم ، وكانت صديقته الوحيدة أيام الجامعة وغدت حبيبته دون أن يعلم متى أو كيف حدث هذا .... ولم تعلم ...
انتهت الأغنية وخيم هدوء الليل فقال بصوت مسموع : تصبحين على خير أميرتي ... وأطفأ الأنوار مغادراً بعد وقفة غير قصيرة أمام صورة (نسرين) المواجهة للباب .
في اليوم التالي ؛ ظهرت علامات البكاء والأرق جلية على وجه (نسرين) ولكنها لم تستسلم وابتسمت رغم صورة الطفل التي تعذبها و صوت زوجة أخيها المزعج وأنساها مجئ ابنة اخيها نسرين الصغيرة الى أحضانها كل شئ إلا أن تضمها إلى صدرها وتسعد ببراءتها وضحكاتها وقبلاتها الرقيقة و طلبها المتكرر أن تلعب بالهاتف... فمن أجلها فقط بحثت عن الهاتف وفتحته لها بعد تهرب طويل وبعد هنيهة من اندماج الصغيرة في اللعب باحتراف تُحسَد عليه أنبأها الهاتف بورود رسالة كانت منه ...من (مجدي) ! قرأتها ثم نظرت للصغيرة التي قالت في براءة وهي تنظر إليها : ضحكتك جميلة جداً يا عمتي وقبلتها !
وفي المساء ؛ كانت تجلس معه برسمية فرضها وجودهما في المحل لم تمنعها من أن تقص عليه ما حدث.. كل ما حدث كما اعتادت دائماً ومن وراء خصلات شعرها المتمردة بين أصابعه ابتسم بارتياح لأن حبها عاد إليه دون قيد ينغص عليه حياته و التهمه القلق حيال أجفانها المتورمة وأمارات الاجهاد البادية عليها وذاب عشقاً لخصلة شعرها البيضاء التي حلم طويلاً بتقبيلها وشم عبيرها وقبل أن تفضحه عيونه سألها على استحياء : كيف أنتِ الآن ؟
قالت مبتسمة : أتعرف نغمات البيانو عندما تتسلل بخفة إلى روح مذبوحة أو زخات العطر على جرح جديد في اصبعك هكذا أنا .....أتفهم ؟
فرد : لا ...........أشعر .......أشعر بكِ قالها في نفسه ثم ادعى الانهماك في العمل وأخذت هي تختلس النظر إليه بين الفينة والفينة ، تريد أن تتحدث إليه عن صفقة عمل - ولا تدري من أين تبدأ أو كيف وهل يسامحها على انقطاع طويل تليه زيارة "مصلحة" - ؛ محله يمكن أن يساعدها على تسويق منتجاتها واستدركت بأفكارها وهي تنظر إليه مباشرة ... إنه رائع حقاً وعلاقاته متشعبة يمكنها الاستفادة منها وكيف لا وهو خلوق ولبق وراقي ووسيم أيضاً فقد وُلِد لأم فرنسية وأب مصري فورث عن والدته عينين عميقتي الزرقة كقلب المحيط ولكنة فرنسية سليمة وولع بالتاريخ وعشق للحرية ولياقة شديدة وأخذ من أبيه المروءة و الحياء الشرقي المنقرض واحترام كونه مصرياً مسلماً و الشعر فاحم السواد والقسمات شديدة الجاذبية على قسوتها و التي جعلت منه شبيهاً لممثلي أفلام رعاة البقر الأمريكية القديمة وفارساً لأحلام كل بنات كلية الآثار ما عداها فهم أخوة ... هذا (مجدي) أخي ... انتزعت نفسها من أفكارها لتسأله بمرح : أتذكر أيام الكلية فأجابها بمرح مماثل : طبعاً وهل ينسى المرء .....؟ فردت برقة أدهشتها : ماذا؟ فقال محولاً مجرى الحديث : لا عليكِ ..أتعرفين لقد بدأت أخاف منافستك فقَصة شعرك هي قَصة محترف ...ما رأيك أن تعملي معي ؟ فضحكت لفراسته ولأنه مهد لها كعادته سبيلاً للحديث بل ووافق على أن تورد لمحله الاكسسوارات هنا شعرت بنشوة الانتصار فقد سار الأمر على خير ما يرام و فتح لها مجدي أبواباً جديدة من التعاون مع أصحاب البزارات السياحية من معارفه والأروع أنه كان يفكر معها بتناغم شديد أمتعها و عادا فريق عمل من جديد وكان هذا مفيداً ومع الوقت أصبح مربكاً لها ... وممتعاً له فقد كان يراها يومياً كما كانا في الماضي ويقضي إلى جانبها أوقاتاً طويلة وهذا يكفيه أن يراها تنجح حتى وإن كان يتألم لأنها لا تشعر به ويتعذب بعهده لها أنه سيحترم صداقتها ولن يسعى لرتبة أعلى في قلبها ...أذله عهده فهو لا يجسر على مطارحة قلبها الغرام لأن شرف الرجل هو الكلمة كما يقول عقله ولأنه يخاف أن يخسرها إلى الأبد .... وهذا ما يعترف به قلبه .
أما هي فقد أضاء وجهها نور الحياة عندما وجدت عملاً تحبه وانتظمت دراستها وعادت من جديد للقاء صديقتها (نجوى) كأختين وشريكتين في العمل وباتت تحلم بنصر يليه نصر وتحقق انجازاً بعد انجاز...كانت في أحلامها ملكة ككليوباترا وشجر الدر وحتشبسوت وفي واقعها الجديد رجل عقله فوق كل شئ وقلبه مكمم الفم معصوب العينين والمرأة داخلها سجينة لا تتمرد ولا تُبْعَث ليلاً بل كانت ساكنة هادئة على نحو ينذر بالخطر ومرت الأيام وتحقق هاجسها عندما واجهتها نجوى مداعبة بأنها تتفوه باسم (مجدي) مئات المرات يومياً ...وواجهت هي نفسها باهتمامها به وعشقها لفنجان القهوة الذي يعده لها بنفسه ورؤيتها له في كل شئ حولها بدءاً من شعرها الذي ينعم بلمسته وحتى صورة الطفل المعلقة في حجرتها والتي أهداها إياها عندما أعجبتها مثيلتها في محله إنها تشبهه وضحكت لهذا الخاطر ثم كشرت حتى برزت خطوط جبهتها معلنة مقاومة احساسها والاستمرار كراهبة في محراب الحياة فلن يطأ قلبها رجل أبداً ولن تخدع نفسها وتسمي ما تعيشه حباً فالفقر العاطفي والتعود والفراغ وقسوة الواقع هي ما يجعلنا نظن بقلوبنا حباً للأشخاص الذين يدخلون حياتنا خاصة بعد الأزمات .... وقررت وهي تداعب خصلتها البيضاء بقوة : لا (مجدي) بعد اليوم حتى العمل لن تذهب إليه ....ونطقت بصوت مسموع : من حقي إجازة وعاد تململ روحها على فراش الليل والذكريات إلى سابق عهده.
انقطعت عنه أياماً طويلة ثم نظرت لشعرها ....إن شعرها يحتاج للمسته ....زيارة رسمية بلا هدف سوى جمال شعرها ثم إن هروبها من مواجهته دليل على خوف والملكات القويات لا يخفن وايماناً بهذا المنطق ارتدت حذاءها الرياضي وبنطالها الجينز على كنزة من الكتان بنية اللون وذهبت إليه متحفظة تنوي محادثته كرجل يحادث رجل ووجدته بكامل أناقته يضحك ملء شدقيه وهو يصفف شعر حسناء جلست أمامه بثوب الزفاف فتغيرت بوصلة و دلفت بكل غضب الدنيا إلى الداخل ثم وقفت أمامه عاقدة ساعديها أمام صدرها وران على المكان صمت رهيب وتجمد الجميع تحسباً لانفجار البركان وقالت هي بانفعال : أريد صبغ هذه الخصلة دهش (مجدي) وكظم غضباً كان يتأجج في صدره وتتشنج به ملامحه من حدتها أمام الناس ثم تضاعفت دهشته عندما غادرت مفتعلة مشكلة لأنه تأخر وتركها تنتظر لفترة طويلة فذهبت وهي تقود دراجتها بسرعة عالية والأفكار تتدفق على رأسها : انتِ تحبينه يا نسرين وتغارين عليه كفتاة في السابعة عشرة ألا تخجلين من نفسك يا غبية .... وتذكرت صوت (نجوى) وهي تقول في خبث : هذا الولد يعشقك يا فتاة ، و تذكرت كيف ردت بحدة مَن ينفي عنه تهمة : هراء ، إلى متى سيظل الشرق يظلم الصداقة ويضيعها ناعتاً إياها بالعشق ....مجدي أخي وكيف استدركت(نجوى) بهدوء : هذا الستار الذي تختبئين وراءه حتى لا تصرحي لنفسك الجبانة بحبه ...نعم فأنتِ تحبينه أيضاً وعلى العموم أنتِ حرة افعلي ما يحلو لكِ لكن احذري فهذا الفرنسي المتمصر لن ينتظرك طويلاً لأن المتربصات به أكثر من شعر رأسيكما معاً ...أتعرفين أنكِ تشبهينه ... وهكذا هم العاشقون وفي خضم ذلك كانت عينا نسرين قد تعلقتا بثنائي عجوز عاشق يسير على الرصيف كصورة للحب تمشي على أرض ودارت برأسها إليهما ورفعت يدها تحييهما فوقعت من على دراجتها ، وبعد هنيهة ومن بين الزحام وجدته أمامها ينزع خوذتها عن رأسها في قلب العاصمة على طريق السيارات ويقبل خصلتها البيضاء...... حبيبته .
و بعد أيام كان (مجدي ) يعلق صورة كبيرة ل(نسرين) بثوب الزفاف على واجهة المحل و(حسين) يعاني سكرته في إحدى الملاهي الليلية وصديقه يسأله : كيف حال تلك المتعجرفة خطيبتك السابقة هل ربت شاربها أم ليس بعد ؟ أراهن أنها ماتت حية بعد الدرس الذي لقنتها اياه فضحك (حسين) بمرارة وقال بلهجة أقرب للبكاء : بل صفعتني للمرة الثانية يا صاح وتزوجت .....أعطتني شعرها ميتاً بلا حياة ...وأعطته حياتها كلها جتى الموت فدهش الآخر قائلاً : عمَن تتحدث ؟
فضحك (حسين) هاذياً : الكوافير وفغر صديقه فاه غير مصدق ، ولاكت الألسنة في تلك البقعة من العاصمة حكاية الفتاة العانس التي تزوجت مصفف شعرها في فحيح لا يرحم بألف رواية وحكاية لم ترقى أي منها للحقيقة ولم يفهمها أحد رغم بساطتها فهي وباختصار حكاية حب أنهت ليلاً طويلاً من انتظار عاشِقَيْن !
ساحة النقاش