كتب - علاء أبو الحسن
(في أحدي الليالي)
علي رأس الساعةِ الواحدة صباحاً بعد مُنتصف الليل ، والقمر بازغاً في ليلة يتمتع طقسها بدرجة حرارة معتدلة ، كان يجلس في غرفته شاباً وسيماً طموحاً مجتهداً ، يبلغ من العمر ثلاثةً وعشرون عاماً ، يحلُم منذ نعومة أظافره أن يكون مثل أبيه رجل أعمالاٍ مشهور، وبما إنه الأخ الأكبر لأخيه الذي يصغره بستة سنوات ، فكان يُعتبر ذراع والده الأيمن في العمل ، بجانب دراسته بكلية التجارة الفرقة الرابعة ، تلك الكلية التي لم يُعطيها حقها ولا يهتم بها بسبب كثرة العمل ، مما أدي ذلك إلي سقوطه بها مرتين في فرقتين مختلفتين ، ذلك الشاب يُدعي (مُهاب).
فكان (مُهاب) جالساً بجوار النافذة ناظراً للقمر البازغ المُنير الذي يملء السماء بنوره راسماً لوحةً فنيةٍ رائعة ، شارداً سارحاً في محبوبتِه الجميلة ذات البشرةُ البيضاء ،والعيون الزرقاء ، والشعر الأسود الجميل الذي يختبئ تحت حِجابُها ، ومِشيَتِها التي تُجبر كُل مَن يراها علي أحترامها وغض بصرِه عنها ، وطريقة تحدُثها الراقية التي تُجذبُكَ لأستماعِها ، تلك الفتاة تُدعي (لوجين).
فهي فتاة تبلغ من العمر عشرون عاماً ، لديها أخت واحدة فقط تصغرُها بخمسة سنوات ، ووالدها مُتوفي وأُمها سيدةً عجوز، كما أنها طالبة بالفرقة الثانية كلية الآداب قسم إرشاد سياحي ، تلك الكلية التي سقطت في السنة الأولي منها بسبب موت أبيها في ظروفاً صعبة أثناء أمتحاناتها ، فهذه الكلية في نفس الجامعة التي يدرس بها (مُهاب) حيث المكان الذي تعرفت فيه عليه منذ أقل من سنةٍ بموقف حدث في مطعم الجامعة.
(اللقاء الأول في معطم الجامعة)
في يوم مشمس شديد الحرارة ذهبت (لوجين) وحدِها بعد المحاضرة الثانية وقبل بدء المحاضرة الثالثة إلي مطعم الجامعة لشراء بعض الأطعمة والمشروبات الباردة لها ولصديقاتها ، وكان وقتها هاتفها المحمول في يدها ، ولكن في طريق رجوعها إلي المُدرج لم تجد الهاتف معها...؟!؟!فرجعت مُسرعةً إلي المطعم ، باحثة عنه حيثما كانت تقف ، ولكنها لم تجده ، فظلت تبحث وتسأل...؟؟
حتي وجدت أمامُها شاباً وسيماً يبدو عليه ملامح الأحترام وهو (مُهاب) ، يقف بالقرب من المكان التي كانت تقف فيه قبل بضع دقائق ، فقررت أن تسأله ، فربما يكون قد رأه أو شيئاً من هذا القبيل.
وبالفعل سألته عما إذا رأهُ أم لا ؛ فقال :: لا لم أره ، ولكن يمكنك أن تتصلي به من هاتفي ، فربما يكون أحداً وجده ، فصمتت لثوانٍ معدودة ثم هزت رأسها بالموافقة ، فأعطي لها الهاتف ، وقامت بالإتصال ، ولكن المحاولة بأت بالفشل ، إذ جرساً ولا أحداً يجيب...!!فظل معها يبحثُ عن الهاتف ، وهي تتصل به مُتمنية أن يَرُد عليها أحد ، وظلا علي هذا الوضع قرابة النصف ساعة ، وأثناء بحثهما علي الهاتف كانا يتبادلان الحوار عن الجامعة والدراسة ، حتي تعرفا علي بعضِهِمَا.
وبعد مرور ربع ساعة أخري ، جاءت اللحظة المنتظرة ، فقد أجاب أحداً عليها ، فقالت له :: السلام عليكم ـ هذا هاتفي ، أين وجدته؟؟ فأجاب قائلاً :: لقد رأيتُ هذا الهاتف يدق وهو مُلقياً علي الأرض بالقرب من مطعم الجامعة ، ولكن من الصعب أن يراه أحد ، فأنا رأيته بالصدفة البحتة....! فقالت :: حمداً لله وشكراً جزيلاً لك ، أين أنت حتي أئتي إليك..؟؟ فقال :: أنا في مطعم الجامعة ، فذهبا إليه وأخذت هاتفها وشكرته بحرارة شديدة ، ثم أستدارت لــ (مُهاب) وهي مُبتسمة وقالت له :: شكراً جزيلاً لك فأنا لا أعلمُ كيف أعُبر لك عن مدي شكري وأمتناني ، فرد مُبتسماً :: لا شكر علي واجب ، فأنا لم أفعلُ شيئاً ، ولكن هل يمكن أن أصلك إلي المُدرج..؟؟ فهزت رأسها بالموافقة والترحاب ، راسمةً ابتسامة وردية علي خديها ، فعلي ما يبدو أن (مُهاب) قد أُعُجب بها وهي قد أُعُجبت به أيضاً.وعند وصولهما المُدرج ، كانت المحاضرة قد بدئت وقُفل الباب ، ولم تستطع الدخول ، فجلسا مع بعضِهما يتبادلان الحوار في كل أمور الحياة ، أثناء تناولهم الأطعمة والمشروبات الباردة التي أشترتها (لوجين) ، حتي أنتهي اليوم الدراسي.......ومن هنا كانت البداية...!!
وظل (مُهاب) سارحاً ، ينظر للقمر المُنير تارة وإلي الهدية التي أمامه تارةً أخري ، حيث أن عيد ميلاد (لوجين) في صباح اليوم التالي ، فقد أحضر لها (مُهاب) هديةً رائعة ، وهي ساعة يد كانت تتمني أن تشتريها ، ولكنها لا تستطيع لغلوُ ثمنها ، ولكن لا شئ يغلي عليها بالنسبة له.
فخلد (مُهاب) للنوم أَملاً أن يحلُم بها ، فعلاقة العشق التي بينهما ليست كمثلها علاقة ، فالرابط بينهما هو الحب الصادق ، والاحترام المتبادل ، والصراحة المُفرطة ، والكرم الزائد سواء المادي أو المعنوي ، والحرية الشخصية التي يتمتع بها كلاً مِنهما مع أحترام رغباتُ الآخر ، أي أنها أشبهُ ما تكون بعلاقة الحب المثالية نادرة الوجود...!!
(يوم عيد ميلاد لوجين)
وفي صباح اليوم التالي ، أستيقظ (مُهاب) من النوم علي صوتٍ أشبه بصوت الكروان في غناه ، فقد أستيقظ علي صوت مَن تملُك قلبه ، وتُشعل أحساسه ، وتحتل تفكيره ،
قائلة :: بحبك حب مش عادي .... وحبك جوه مش هادي .... دانا عايزاك تكوني جنبي .... من بكرة! لاء من الليلادي
فرد عليها قائلاً :: حبيبي لو تجيني هقولك ... أني من اول مرة شوفتك .... حسيت ساعتها أني بحبك ..... بحبك من زمان
حبيبي أنا نفسي تفضل جنبي ... وتعيش وتحلم جوه في قلبي .. وتاخد عمري روحي وحبي ... حتي عيني كمان
ثم قام مُسرعاً ، لأرتداء أجمل وأجدد ملابسه ، ووضع أفضل عطر لديه ، حتي يُصبح مستعداً للقاء حبيبته الجميلة (لوجين) التي ينتوي أن يتقدم لخطبتها بعد تخرجه مباشرةً.
وبالفعل خرج من المنزل وهو في غاية الأناقة ، مُبكرً عن الموعد بأكثر من ساعة ، متجهاً إلي محل (الوردة البيضاء) ليشتري لحبيبته أجمل وردة حمراء في المحل بأكمله ذات الرائحة العطرةُ الطيبة ، فكانت الوردة الحمراء الجميلة في يده اليمني ، وفي يدهُ اليسري الهديةُ التي سيُفاجئها بها.وبينما كان (مُهاب) في طريقه للمكان الذي أتفقا أن يتقابلا فيه ، وهي أحدي الحدائق الراقية في القاهرة ، دق هاتفه مُعلناً أن صديقه المُقرب يتصل ، فأجاب عليه وهو في غاية السعادة ، ولكن علي الطرف الأخر جاءه صوتاُ محملاً بنبرة حزن ممزوجة بغضباً ودهشة قائلاً :: أين أنت يا (مُهاب)...؟؟ أريدك أن تأتي إليَ هنا فوراً في (أحدي الكافيهات المشهورة بالقاهرة) ، ولا تسئل عن السبب حتي تأتي...!!
فأجاب عليه (مُهاب) بعد أن أرتبك قائلاً :: حاضر ها أنا في طريقي إليك ، وأنهي معه الأتصال...! وغيّر (مُهاب) مساره متجهاً لصديقه ليعرف ماذا يحدث هناك؟؟ ، وهو يُحدث نفسه قائلاً :: لايزال هناك وقتٍ علي موعدي مع (لوجين) ، ولكنه في نفس الوقت يتسأل لماذا كل هذا الحزن الذي يسيطر علي صديقه..؟؟؟ لماذا كل هذه الدهشة التي كان يتحدث بها..؟؟ لماذا كان غاضباً لهذا الحد...؟؟ وظل يتسأل ويفكر حتي وصل المكان........وكانتُ الصاعقة..........وكانتُ الصدمة....؟؟!!
فقد وقف (مُهاب) مندهشاً غاضباً ، مذهولاً مُتفاجئاً ، فقد رأي مشهداً مؤلماً يُحرق القلب ويوُقف العقل ، لم يتوقع طيلة حياته أنه من الممكن أن يتعرض لمثل هذا الموقف الأليم ، ظل واقفاً ثابتاً وكأن نجاراً مسمر قدميه بمساميرٍ صُلب...!!
فكانت عينيه بارزتين عن جفونه ، شديدةُ الأحمرار ، تلمعُ كالألماس لتُنبئ عن أن دموعٍ حارةٍ أتية ، فيا لهول وفظاعة المنظر ، فقد سقطت من يده اليمني الوردة الحمراء الجميلة وسقطت أيضاً الهدية التي كان سيُفاجئها بها ، وشَعَرَ حينها بإنهياراً داخلياً جعله يسقُط علي ركبتيه باكياً....!!
فقد كانت (لوجين) تجلس علي منضدةٍ ، وأمامها شاباً طويلُ القامة عمره كعمر (مُهاب) تقريباً ، يمسك بيدها اليسري ، وفي يدها اليمني هديةً ، عينيه في وجهها يتغزل فيها ، وهي تنظر للأرض خجلاً ، وعلي وجهها ترتسم أبتسامةٍ وردية لإعجابها بروعة كلماته ورومانسية حديثه...!!
فأخذ (مُهاب) ما سقط من يده ، وأنطلق راكضاً لا يعرف إلي أين يتجه ، ولا يعرف ماذا يفعل؟؟ ، فظل راكضاُ باكياً يتسأل ويحدث نفسه ،
قائلاً :: لماذا فعلت بي هذا؟! ألم أكُن حبيبها المُغرمَةً به؟؟!! ألم يكن بيينا وعداً بألا نفترق...؟! أكانت تُحب كل هذه الفترة أحداً آخر غيري....؟؟!! أتخونني بكل هذه السهولة...؟؟!!
وبينما كان يركض ويتسأل هكذا ، إذ بــ (لوجين) تتصل ، فينظر لهاتفه باكياً مُقرراً ألا يجيب عليها مطلقاً ، وظلت تتصل به قرابة العشرون مكالمة ، وهو ثابتاً علي موقفه لا يجيب عليها..!!
وعند غروب الشمس هَمَ (مُهاب) بالرجوع إلي المنزل ، بعدما كانت تغيّرت كل ملامحهُ عن صباح نفس اليوم ، فأصبحت ملابسه الأنيقة متسخة ورائحتة الطيبة العطرة كريهة من كثرة الركض ، وقصة شعره الجميلة تبعثرت ، وأبتسامته التي كادت أن تُظهر ضرسي العقل قد أختفت ، فدخل غرفته بحالتهُ تلك ، فسقط علي وجه باكياً بحرقةٍ تُدمي القلب ، ثم أشعل النيران في الوردة والهدية ، وقلبه ينفطر من شدة الحزن ، ودموعه تنهمر من عينيه كشلال الماء ، ثم يقطع صوت بكائه صوت دقات هاتفه معلناً عن أن (لوجين) هي المتصلة فينظر لهاتفه نظرةً دامعة ممزوجة بالحزن والأسي.
ويظل الهاتف يدق ويدق وهو لا يجيب عليها ، وظل علي هذا النحو قرابة الأسبوع ، هي تتصل وهو لا يجيبُ عليها ، فالصدمة التي تعرض لها جعلتُه لا يريد رؤيتها أو سماع صوتها حتي ، كما جعلته يمكث في منزله ، معتكفاً في غرفته لا يخرج منها إلا للضرورة القصوي...!!نعم فالخيانةُ أشدُ الصدمات وجعاً للقلب ، وألماً للنفس ، وأرهاقاً للعقل ....!!
(بعد مرور أسبوع)
وبعد مرور سبعة أيام كاملة من أعتكافه في غرفته ، قرر (مُهاب) الخروج من المنزل والتحرر من حبسته في غرفته الصغيرة تلك ، ذاهباً للعمل رغبةٍ منه في إغراق نفسه في العمل المتواصل لعدم التفكير بها وبما فعلته به ، وعند خروجه من المنزل متجهاً لجراج السيارات ، إذ يتفاجئ بــ (لوجين)أمامه ، التي ظلت أسبوعاً تقف بالقرب من بيته منتظرة أن تراه لتتحدث معه ، ولتعرف لما لا يجيب علي مكالماتها...؟؟!! ولما لم يأتي يوم عيد ميلادها...؟؟!! وكأنها لم تفعل شئ....!!
فعندما رائها (مُهاب) لمعت عينيه ودقه قلبه بسرعةٍ رهيبة ، فتمالك أعصابه ونظر أمامه بعيداً عنها وأكمل طريقه مُتجهاً نحو سيارته ، فركضت (لوجين) ورائه وقُدت قميصه من دُبره فجذبته قبالتها ،
قائلةً :: ماذا بك يا (مُهاب) ... لما لا تريد التحدث معيِ...؟! ولما لا تجيب علي مكالماتي ....؟؟!!فنظر لها وهو في صمتٍ مهيِب ، وفي عينيه ألف كلمةٍ وكلمة ، ولكن لسانه مُلجماً بلجامٍ من حديد...!!
فعادت عليه السؤال مرة أخري :: لما لا تجيب علي مكالماتي...؟؟!! لما لم تأتي لموعدنا الذي قد كنا اتفقنا عليه..؟؟!! ألم تعدني أنك ستُفاجئني بشيئاً ما يومها....؟؟!! أهذه هي مُفاجئتك لي..؟؟!!
فظل ينظر لها مُتعجباً من طريقة تحدثها ، فكأنها لم تفعل شئ..!! كما أنه ظل صامتاً هادئاً ، ولكنه هدوء ما قبل العاصفة ، التي حينما تأتي لا يُحمد عُقباها ، فبينما كانت عينيه في عينيها ، أرتسم علي وجه ملامح الغضب منبئةً عن عاصفةٍ أتية ،
فصرخ في وجهها قائلاً :: أتظنين أنني لا أعرف الحقيقة..؟! ألم تعلمي أنني قد رأيتكِ مع ذلك الشاب..؟! لما فعلتِ بي هذا؟! أكنتِ تُحبِ كل هذه الفترة أحداً آخر غيري....؟؟!! أتخونني بكل هذه السهولة...؟؟!! ألم أكُن حبيبكِ المُغرمَةً به؟؟!! ألم يكن بيينا وعداً بألا نفترق...؟! ماذا فعلت معكِ حتي تفعلي هذا..؟؟!!
فرجعت خطوة للوراء وهي في ذهولاً ودهشة لما تسمعه ، فقد بدئت عينيها تدمع ويدها ترتعش..!!
فأكمل قائلاً :: ألم يكن هذا اليوم يوم ميلادك الذي كنا سنتقابل فيه...؟؟!! أكنت تحتفلين معه أولاً ثم تأتي لتحتفلِ معي...؟؟!! ألم يكن جالساً أمامك ماسكاً بيدك ، ينظر إلي وجهكِ ويتغزل فيكِ..!! ألم تكُنِ ناظرةً للأرض خجلاً ، وتبتسمين مُعجبةٍ بكلماته...!!
فقطعت نوبة غضبه وصراخه ، صوت بكائه الحار وهي تنظر إليه في دهشة وتعجب..!!
قائلة :: أتشك فيِ يا (مُهاب)..!! أتشك فيِ وأنت تعرفني جيداً...؟؟!! فأنا أحبك ولا أستطيع العيش بدونك ، أنا أحبك ومن المستحيل أحب غيرك.فتبدلت ملامح غضبه بأبتسامة سخريةً ،
فأكملت قائلةً :: كيف تصدق أنني من الممكن أن أواعد غيرك..؟؟!! لما لم تنتظر حينها لتفهم...؟!فرد عليها ساخراً :: نعم أنتِ محقة ، فكان عليَ أن أجلس بجواركما حتي تُنهي معه اللقاء وتنهي معه الأحتفال ثم تلتقي بيِ لنحتفل سوياً أيضاً...!!!
فنظرت إلي الأرض قائلةً :: سأقول لك من هو ذلك الشاب الذي كان يجلس معي ، فهو شاباً مدمناً للمخدرات ، عاقٍ لوالديه ، لا يدرس حالياً أو بمعني أصح فُصل من الكلية ، يعمل (ديــلــر) ، سرق علبة ذهب أمي مما أدي إلي إصابتها بشلل نصفي ، كما أنه سبباً في موت أبي.!! فهذا الشاب هو أخـــــي..؟؟!!
نعم أخي الذي لا أعترف به ، ولا يشرفني أن أعترف به ، ولن أعترف به أبداً ، فهو سبباً في موت أحب شخصاً لنا في الدنيا ، بسبب مُشادة كلامية بينه وبين أبي حول إدمانه للمخدرات ، وأنقطاعه عن الذهاب للجامعة ، وأصدقاء السوء الذي يرافقهم ، وعن أموراً عدة يفعلها ذلك الشاب الضائع المدمن ، فمات أبي بسكتةٍ قلبية علي أثرها ، مات أبي بحصرتِه عليه ، مات أبي وماتت الدنيا معه بالنسبة لي ، وبالنسبة لأمي العجوز المريضة الضعيفة ، ولأختي الصغيرة المراهقة التي تحتاج مراقباً وداعماً لها في تلك المرحلة الحرجة من عمرها ، مات أبي ومات معه كل شئ ، حتي أخي هذا مات معه بالنسبة لي ، فانا ليس لي أخٍ...!!نزلت كلماتها تللك عليه كالثلج ، فهدئت أعصابه وأطمئن قلبه ، ولكن الغضب أحتله مرة أخري فأصبح غاضباً هذه المرة عليها لا منها ، فأمسك بيدها التي ترتعش واضعاً أياها علي صدره ناظراً لها نظرة أعتذار.
وبينما كانت دموعها تختفي شيئاً فشئ وأعصابها تهدء تدريجياً ، وضعت رأسها علي صدره وأكملت حديثها ،
قائلةَ :: منذ وفاة والدي ، أنا وأمي وأختي الصغيرة لا نتكلم مع أخي هذا ، ولا نراه قط ، فهو لا يمكث بالبيت ولا يأتي إليه مُطلقاً ، فلقد قاطعناه من وقتها ، أو تستطيع القول بأننا قد تبرأنا منه...!!
وفي هذا اليوم ، يوم عيد ميلادي ، أنتظرني بالقرب من المنزل ومعه هدية لي ، وأجبرني علي أن يأخذني لمكاناً ما لنتحدث ، - فعندما كان ماسكاً بيدي ، كان يتوسل لا يتغزل ، طالباً مني أن أسامحه وأن اتكلم مع أمي لتسامحه ،
- وعندما كنتُ أنظر إلي الأرض فليس ذلك خجلاً ، بل رغبةً مني في عدم النظر إلي وجه الأحمق ، وعينيه التي تحيط بها هالاتٍ سوداء من كثرة تناوله المخدرات ،
- وكنتُ أبتسم وقتها سخريةً من كلماته الحمقاء وليس إعجاباً ، فكان يعتذر ويتأسف ويتوسل ، طالباً منيِ أن أسامحه علي ما فعل ، كأنه سبباً في ضياع حقيبتي مثلاً....!! ولم يكن سبباً في ضياع بهجة الدنيا بأكملها...!!
فحتضنها بقوة ممزوجة بعطفٍ وشفقة وعشقٍ وأعتذار حتي سمعت دقات قلبه وصوت أنفاسه.ثم تنهد قائلاً :: أنا أسف يا (لوجين) ، أعتذر بشدة أنني لم أتفهم الوضع ، ولم أحاول أن أفهم ، أعتذرأنني لم أسمح لكِ أن توضحي لي الأمر ، أعتذر وأرجو أن تُسامحينيِ ، فأنتِ (لوجين) ذو القلب الطيب الأبيض الذي يسامح دائماً ، ولكنني معذورٍ أيضاً ، فأنتِ لم تُعلميني أن لكِ أخً ، ولم تذكري أسمه حتي ولو لمرةٍ واحدة.
فقاطعته ، بعد أن هدئت أعصابها تماماً ، وسكنت يدها بين صدره ، وجفت دموع عينيها ،
قائلة بصوتاً هادئ :: أنت مُحق يا (مُهاب) ، فأنا قد أخطئتُ في ذلك ، ولكن لا تتسرع بالحكم علي الآخرين...!! وأرجو أن تسامحني أنت أيضاً علي ما عشته الفترة السابقة بسببي ، فأنت تعلم كم أنا أحبك.
فرد عليها قائلاً :: وأنا أحبك أيضاً ، ثم طبع علي جبينها قُبلةً.
ساحة النقاش