كتبت_ بسمة توفيق

أفاقت (سارة) من انغماسها في الرواية التي كانت تقرأها على سقوط شئ ما في حجرها أدركت بعد هنيهة أنه باكو لبان رماه صبي وانطلق يرمي غيره وغيره لتستقبل النساء ما رمى كلٌ حسب طبيعتها فما بين استهجان لطريقته في عرض ما يبيع ، وبحث دءوب بين محتويات الحقائب التي خرج منها أحمر الشفاه المكسور وقلم الكحل نصف المبري وقلم الرصاص والمناديل المستعملة وكيس الشيبسي الفارغ منذ أيام  لتخرج قطعة النقود المعدنية وتدخل الأشياء للحقيبة من جديد ،  بينما تجتمع باكوات اللبان في يد إحداهن لتردها إلى الصبي بلا شراء ويخرج البائع الصغير من الصفقة بحفنة جنيهات يغادر بها في المحطة التالية فيلتقي أترابه من بائعي اللبان والمناديل ويسلم العربة لبائع الطُرَح الذي صاح يروج لبضاعته بصوت جهوري ويستعرض جودتها ويتحرك بدأب بين هذه التي تمسك بالكيس وتتفحصه بعين الخبير ثم تتركه وتلك التي تبحث بين الألوان عن لون بلا هوية ثم تترك البضاعة لبائعها في فتور ويغادر هذا الأخير ويقترب القطار من محطة النهاية .. بقي فقط ثلاث محطات  ولا شئ يتغير أناس يأتون ويغادرون دون أن يجمعهم شئ كجزر منعزلة  ....طارق يجلس إلى جانب جميلة ، في مواجهة سارة وريما  وأمامهما  مجموعة من الصغار بثياب زاهية الألوان صعدوا مع أمهاتهم صعيديات اللهجة رقيقات الحال والقلوب أيضاً وجلسن على الأرض بأحمالهن الثقيلة إنهن على سفر والمترو خطوة في طريق العودة من مولد أحد أولياء الله الصالحين كما أخبرت إحداهن جميلة بينما كان طفلها الصغير يقترب متعثراً في جلبابه من سارة أو بالأحرى كان يقترب من زجاجة المياه في يدها وهو يبتسم في خبث برئ فسألته في أمومة خالصة : أتريد أن تشرب فأومأ بالايجاب وتناول منها الزجاجة على الفور وما إن فرغ من الشرب حتى أعطاها لأخته فشربت هي الأخرى ثم نظرت لسارة بعداء بالغ لا يتفق وملامحها الطفولية الجميلة ما جعل الأخيرة تبتسم وتخبرها بأن لها أن تحتفظ بباقي المياه ولم ترد الصغيرة ورد القطار بالوقوف وهم الوفد الصعيدي بمغادرة وعادت زجاجة المياه إلى يد سارة مع ابتسامة عذبة من ثغر الطفلة العنيدة التي استبدلت المياه المعدنية بكيس يفوقها حجماً  وتشبثت بجلباب أمها الرازح رأسها تحت حِمل ثقيل مغطى بقطعة قماش على الأرجح كانت عند صناعتها بيضاء ولكنها لم تعد كذلك ....على أي حال انغلق الباب وتحرك القطار بلا جديد سوى ثرثرة باكية من إحداهن  عبر الأثير حول آشعة وتحاليل وحلم بالانجاب وحماة لا ترحم جعل جميلة تتمتم : لعنة الله على  كل مَن يظلم امرأة وعاودتها ذكرى تعرضها للضرب المتكرر بيد زوجها الأول وهي حامل في السابعة عشرة  فاقشعرت وتحسست ذراعها وكُلُها يرتجف رغم مرور السنوات لأن قلب المرأة لاينسى مرارة ذاقها يوماً ..  .

⃰  ⃰  ⃰

الهاتف الذي طلبته غير متاح ....كلمة سمعها زياد فأدرك أن ابنه في المترو خاصة بعد أن أمره بالعودة وحيداً إلى البيت لأن لديه عمل سينجزه ولم يكن هذا العمل سوى عروس رشحها له أحد زملاء العمل ذهب إليها شارد الذهن بلا حماس وعاد بخُفي حنين كالعادة  ...بعض الناس يظنون أن هذه الطريقة التقليدية  في الزواج تزعج الفتيات وحدهن لكن ما لا يعلمه كثيرون أنها مؤلمة ومزعجة لبعض الرجال أيضاً ....فإذا كان للمرأة قلب يحركها ، فلكل رجل حلم يقود خطواته  ، وعندما يضطر للتخلي عن حلمه يكون كمَن فقد ظله في الحكايات والأساطير القديمة يتوه ويتعثر ويخفي جبنه وراء ستار العقل والتقاليد ويموت ببطء ثم يجهز عليه الزمن بلا رحمة   وهذا سر عذاب زياد فرغم اقترابه من الأربعين إلا أن قلبه مازال يرسم صورة فتاة الأحلام ولا يفقد الأمل في وجودها ويرفض أن يكون لسواها  ويبحث عنها وراء كل وجه يراه لكن العالم الآن لا يعترف بهذا الأمر الذي انتهى مع نهاية حواديت أمه عن الفارس والأميرة ،  وحتى الحب صار صناعة صينية كما يقول أحد أصدقائه ... ثم إنه أب لطفل يحتاج لرعاية وحنان ..يحتاج لأم... هو وابنه يحتاجان لأم لا لتافهة ولا متعجرفة ولا مهووسة وهو لا يقبل كذلك أن يتحول ابنه إلى طرف في صفقة تبحث  مَن سيدفع أكثر في الشقة والجهاز والأثاث.. إنه وطارق يحتاجان لقلب ..سكن ...إلى مودة ورحمة ...وخروجاً من أفكاره سأل زياد نفسه بصوت عالِ وبابتسامة أشرقت معها وسامته السمراء : تُرى أين هي الآن ...فتاة المستحيل ؟ أين أنتِ من هذا الزحام ؟

 (أنا في المترو)

نطقت سارة بهذه الكلمات لتوضح لأبيها أين هي وأضافت أنه لم تبقى سوى محطة واحدة تفصلها عن نهاية الخط ، محطة وقف فيها القطار...وركبت  بائعة محجبة ومنتقبة وأخرى بلا حجاب ونزلت بائعة الجرجير وحلت محلها فتاة سمراء إلى حد الزرقة .. زرقاء العينين فيما بدا أنها عدسات لاصقة لا تليق بلون بشرتها.. مصبوغة الشعر  تحمل حقيبة ورقية تبدو بمحتوياتها أثقل وزناً من  جسدها النحيل جداً الملفوف في عباءة مطرزة بالخرز والترتر مما جعلها تتراءى لسارة كقطعة من منطقة عشوائية ولم تعرف هذه الأخيرة أنها كانت تحدق بذات العباءة على نحو ملحوظ ومحرج إلا عندما سألتها المذكورة بعداء بالغ من وراء العلكة : فيه حاجة حضرتك؟ عندها أشاحت سارة بوجهها معتذرة  دون أن  تبحث عن تفسير لموقفها ففي القاهرة ....تحديق الكل في وجوه الكل عادة لطيفة وقميئة في الوقت ذاته  يشبع الناس بها هواياتهم في سرد الحكايات و ينعشون  في نفوسهم أمل استرجاع وجوه فارقت في الزحام ولم تعد   وفي غمرة التفكير والشرود وثرثرة الجامعيات اللاتي افترشن أرض المترو  سار الركب إلى ما يفترض أنها محطته الأخيرة ، سار و أغلب راكباته  يتحدثن عبر أثير الهاتف المحمول وأثير الحياة  ومن بين أصواتهن صعد صوت قميص الشقاء الذي ارتدته الشابة المحجبة مع العديد من الحقائب معلناً عن بضاعتها فهي تبيع الجَمَال.. نعم الجَمَال .. تبيع أحمر الشفاه والكحل والمناديل المبللة وأقلام تجميل العين والجوارب الحريمي تبيعهم بدبلة في يسراها وحذاء رياضي وجينز صيني واسع سترت به نفسها وصوت أعلن في قوة أنه ليس عورة وأن صاحبته أقوى من كل رجال الأرض حتى بارهاقها وداخلها الذي يصرخ عناء وهماً  ....ثوان وأنهت (سارة) اتصالها بأحد زملائها في الدراسات العليا - خيارها الأوحد بعد التخرج -  وحدقت في الرواية النائمة بين يديها بنظرة خاوية ثم أعادتها إلى الحقيبة وارتفع رأسها لتواجه (طارق) وبابتسامة متعبة ومداعبة  قالت له: لماذا لا ترتدي معطفك  ؟ الطقس بارد   فابتسم بدوره ولم يرد وردت عنه جميلة : قلت له نفس الكلام .. وهزت رأسها مستدركة : جيل عنيد فغمغم (طارق) بابتسامة خجلى : إنه الخميس فضحكت (سارة) وقالت بدهشة :  وهل يحلو لك الاصابة بالبرد يوم الخميس ؟ هل تحب يا بطل أن تقضي عطلة نهاية الأسبوع في السرير وأن ترهق ماما وتقلقها عليك قالت كلماتها الأخيرة ناظرة إلى جميلة على أنها والدة طارق وأكملت في حنان متحمس : هيا ارتدي المعطف وتأكد أنك ستكون أكثر وسامة وأناقة أيها الرجل الصغير ولم تكد تكمل عبارتها حتى كان الصبي يذعن لما قالت فقامت من مكانها وساعدته  ثم ربتت على كتفه في حنان أخذ يستمتع به في أدب وقبل أن تعود لمكانها سألها بجدية تفوق عمره بعقود  : حضرتك متزوجة أو مخطوبة؟ ومع مباغتة السؤال توقف القطار في قلب ظلام النفق وران الصمت قبل أن تضحك جميلة وترفع سارة يديها الخاليتين من أية خواتم في وجه الصبي وأومأت برأسها سلباً ثم قالت في مرح : ألديك عريس ؟ فضحك دون أي كلام وقالت جميلة مشيرة إليه وهي تضحك: وهل هناك أجمل منه عريس ؟  فأجابت سارة ضاحكة : بالطبع لا ... أتتزوجني؟ فأجاب طارق على نحو أدهشها ودون أن تفارقه الابتسامة : يشرفني ذلك بالطبع ... لكني لاأريد أن أرهقك بانتظاري طويلاً mademoiselle خاصة وأنك رائعة وحتماً هناك ألف شاب يتمنون الارتباط بكِ  شكرت مغازلته البريئة في مرح خجول وغمغمت  بذهن نصف شارد ...لابأس بانتظار طويل في نفق مظلم توجد في آخره   نقطة نور يا صغيري  ثم التفتت لجميلة قائلة : تربيتك رفيعة حقاً أهنئك ..فردت الأخيرة وهي تربت رأس الصبي:  ليته كان ابني فهو يشرف أية مخلوقة بأمومتها له واستطردت بفخر معايا  أحمد أكبر منه بشوية 15 سنة وسهر 5 سنين فابتسمت (سارة) قائلة : ربنا يخلي ورأت في عيني (جميلة) حناناً حزيناً غمر العربة ممتداً إلى (ريما) التي لفها الصمت الواجم والندم على صناعة غربة جديدة داخل غربتها والضياع  وامتدت عيونها إلى جدران العربة حيث كُتِبَت العبارات المسيئة لعدد من التيارات السياسية وتبسمت في سخرية وتأملت  كيف يفرق كل شئ بين العرب إلا اعلانات مساحيق الغسيل والمنظفات ومطاعم الوجبات السريعة  التي تتوحد من المحيط للخليج و للانصاف نقول الفن والحرب الجديدة أيضاً  بالأمس العراق ثم ......ثم .........ثم ..........ثم يولد الحب ويموت في مهده تحت القصف ودوي الانفجارات وتبقى العبارات على الحيطان تجمع أبناء الشرق أبناء القهر والكبت على حطام الأوطان لكن تبقى أم الدنيا صامدة ويارب تضلي صامدة يا مصر لحتى لاقي أرض يواريني ثراها بعد أن ضللت الطريق إلى وطني وترقرقت دمعة في عينيها وهي  تغني موال فوق النخل ومن جانبها مضت (رقية) تغني أيضاً في حب رسول الله عليه الصلاة والسلام  بصوت لم يؤثر فيه الاغتراب عن الصعيد فمضى يسبي القلوب بلا استئذان بينما صمت السماعات المدوية الصوت أذن إحداهن عما يحدث  وانتبذت بشعرها العاري الركن القصي في أماكن كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة تقلب محطات الراديو على غير هدى وجلست المنتقبة في وقار تتابع الجميع من وراء ستارها ككاميرا مراقبة  ولا تراقب صغيرتها تاركة اياها تمارس كل ألوان الشقاوة حتى الخطير منها بلا مبالاة  ........والقطار واقف لا يتحرك .... وفي تأفف سألت إحداهن : لماذا يقف هنا ؟ وران الصمت فلا أحد يعرف الاجابة ولا يوجد خيار سوى الانتظار...الوقت يمر والقلق يلتهم الجميع ...الفتاة التي  تجلس عارية الرأس لا تزال تتابع  الراديو وقد التقطت موجة إذاعة إخبارية صدحت في أذنها هنا القاهرة وأخذت تفك عقدة سلك السماعات مارة بسلسلة على صدرها حملت اسمها .. (نهى) ، وضحكات البنات تغرق أرض العربة في عبث برئ ، وجميلة شاردة وريما دامعة تسكرها الذكرى،  وبائعة الجمال مكدودة وفتاة العباءة المطرزة تكرس جهدها لارتداء أدوار من الطرح استخرجتها من حقيبتها وتحولت بين غفوة عين وانتباهتها إلى محجبة ،   أما سارة وطارق فقد تبادلا الأسماء ثم أخذا   يتحدثان عن الدراسة و المستقبل و الهوايات ، ثم أخذ الحوار بينهما منحى آخر فحدثته هي عن عائلتها الصغيرة وحدثها عن جدته المرحومة وجده و أبيه  وكيف أسماه طارق ليصبح كالفارس طارق بن زياد فاتح الأندلس فضحكت ناعتة  إياه  بالبطل ودُهِش للمصادفة لأن لا  أحد يناديه يا بطل سوى أبوه  ونبهه ذكر هذا الأخير لأمر هام فطلب منها تليفونها المحمول ليتصل به لأن بطارية تليفونه لا تعمل  فقبلت بلا تردد رغم قرب نفاذ رصيدها وبالفعل اتصل به وتحدثا وتغيرت نبرة الأب  عندما تأكد من صغيره أنه في المترو الذي علمت العاصمة كلها منذ قليل وعبر وسائل الاعلام المختلفة بوجود جسم غريب على القضبان أبلغ عنه السائق ...قد يكون قنبلة  .

⃰   ⃰  ⃰

وانطلق الخبر من لسان للسان بعنعنة لا تتوانى فى التأليف والمونتاج   فكبرت كلمة تخرج من أفواههم وتردد بين الجميع أن المترو مستهدف بالتفجير!

 "سنموت بعد قليل وينتهي كل شئ  الموت واحد في بلدي أو هنا إنه الموت أينما تكونوا يدرككم يا مَن تتركون بيوتكم فراراً منه ألا لعنة الله على الغربة والسياسة والغباء  ....   أحن لثرى بلدي  .. سألحق بك يا اياد أخيراً"  ردت (ريما) بهذه العبارة على خبر استهداف المترو وابتسمت بينما بكت (بائعة الجمال) من أجل أولادها القابعين في المنزل وحدهم بكت في هيستيريا صارخة أولادي ..أولادي و   لم يسيطر عليها سوى صوت (رقية) الماضي في مدح سيد الخلق عليه الصلاة والسلام  بلا توقف وكأنها خارج العالم وكل ثروتها في تلك اللحظة ابتسامة طمأنينة وحفنة جنيهات  ..بينما  استكانت فتاة الراديو (نهى) في مكانها تستمع للبرنامج الموسيقي وكأن شيئاً لم يحدث فقط هي وغناء Il Divo   وأحلام اليقظة الجميلة التي عاشتها كثيراً كثيراً هرباً من الواقع والفشل المتكرر و تجلت أمام عينيها لأول مرة بوضوح شديد بدا خلاله المشهد مختلفاً ...المترو أجمل بلا حركة وكأنه يأخذ استراحة محارب والوجوه أجمل، الحياة بكل ما فيها من تناقضات هذه الدموع وهذه البسمات ظلام النفق ونور العربة تجاعيد حزنها وخطوط الابتسامة على حيطانها وهتفت في جنون : يوريكا ، وجدتها .. واستدركت غير مبالية بردود الفعل  لو خرجت من هنا ان شاء الله  سأغير مشروع تخرجي إلى هذا المشهد...الفكرة ليست جديدة .....لكن كاميرا المبدع قلبه  ، والقلب دائماً يفاجئنا بجديد المشاعر وأصدقها .....  وأول مشهد التقطته كاميراها كان المنتقبة التي احتضنت ابنتها وكأنها تحتمي بها دون أن تنبس بينما كانت الصغيرة تلعب وتضحك وتداعب الجميع في رقة وعدم إدراك  ولم تملك أي من الراكبات  سوى مبادلتها الابتسام لتبقى البسمة رغم كل شئ وتصمد البراءة تحت المساحيق والأصباغ  وتبقى أصعب حالة ممكن يمر بها انسان هي تلك  التي يضطر فيها للظهور بمظهر الهادئ الضاحك اللامبالي بأي شئ بينما داخله يصطخب بالألم والغضب والخوف ليعطي الأمان والحب لمَن حوله أحياناً وهكذا كانت جميلة وهي تتحدث إلى سارة   عن أنها لم تكمل تعليمها وتزوجت في السابعة عشرة  من جار لها لم يكن يكبرها سوى بعام واحد  ثم ضحكت مستدركة في مرارة : تقدري تعتبريها جوازة عيال عاندت أهلي وتزوجته كنت أراه الأجمل رغم فشله وانحرافه البادي للجميع وبعد يومين العسل بدأ الضرب والاهانة وقبل أن أصحح خطأي كنت حاملاً

و لم يردعه ذلك عن اهانتي بل انه امعن فيها وبعد أشهر ترك عمله واضطررت أنا للعمل للانفاق على البيت ، عملت في كوافير (حفافة يعني زي ما بيقولوا ولاد البلد على شغلتي ) وعايرني الجميع بعملي فندمت أني لم أكمل تعليمي ومرت الأيام ووُلِد أحمد ابني فاستيقظت لأجد نفسي طفلة أنجبت طفلاً لم أكن أعي شيئاً وازدادت الأوضاع سوءاً فقد هجرنا زوجي  ورفضني بيت أبي ولم أحصل على الطلاق إلا بعد أن تنازلت عن كل شئ .....ومرت سنوات طويلة مات خلالها أبي واختفى أبو ابني من حياتنا تماماً وعدت للعيش مع أمي عدت مطلقة وأم  وجاهلة لأحمل عار مهنتي التي تغامز عليها الجميع حتى زبائني من الجارات والمعارف قطع عبارتها رنين هاتف سارة المحمول برقم لا تعرفه فردت بحذر : ألو مين يا فندم.. ..آه....  أهلاً بحضرتك ..حضرتك ثانية واحدة ..ثم علا صوتها منادياً طارق الذي جاءها بسرعة فهمست له برقة : بابا ثم أعطته السماعة و التفتت لجميلة قائلة: الرجل قلق على ابنه وأنا أقول له أهلاً ..أي حمقاء أنا ؟ وضحكتا معاً وانقطع ضحكهما بعد هنيهة على صوت رجل العربة الأوحد طارق بك وهو يقول لها : بابا يريد أن يتحدث إليكِ وبدهشة وضحكة خجلى مكبوتة وضبط نفس بالغ قالت ألو فجاءها صوته قائلاً : أشكرك جداً وأعتذر عن الازعاج فتحشرج صوتها وقالت في خفوت لا تشكرني واشكر رجلنا الصغير طارق فهو البطل الذي يمنحنا الأمان هنا وأنا متأكدة أننا سننجو ونخرج من هنا جميعاً ان شاء الله وسأخرج أنا بأجمل صديق في العالم حفظه الله لك وفي أدب جم رد على حماسها وعفويتها بكلمة شكر خاطفة أظهرت ارتباكه البالغ  فأغلق الخط بعد صمت مضطرب  كمصاب بصعقة كهربائية خفيفة أعادها إلى قلقه على ولده  بينما كان هناك أب آخر منشغل بأمر ابنته هو ابو سارة الذي كان يتصل بها ويجد هاتفها مشغولاً في كل مرة ثم وجدها تتصل به قائلة  أنا بخير يا بابا ، كلنا بخير الحمد لله ثم انقطع الارسال فطار صواب الأب وغادر المنزل على عجل .

⃰   ⃰   ⃰

ومر الوقت وجفت الدموع ثم تحولت جميلة إلى قاضي العربة فالتفت حولها البنات وأخذت كل منهن تبوح بخبيئة نفسها لتلك الغريبة الحانية في الظلام على الطريق مطمئنة إلى أن الحياة لا تجود بمثل هذه الفرصة للمرء مرتين ..  أن يرتاح ويستمتع بالثرثرة مع غريب متفاهم فكانت حكاية ريما أول قضية  ورأت فيها جميلة ضرورة أن تعود إلى أهلها ودون تطرق للسياسة التي لا تفهمها قالت لها في حنان : يمكننا أن نعوض الحبيب... والوطن مهما طال غيابنا عنه فإنه  لا يدوم وستكون هناك عودة بأمر الله لكن ما لا يمكن تعويضه هو الأهل فعودي إلى أهلك يا حبيبتي وحذار أن تتزوجي بلا حب وابتسمي؛  فالحياة مازالت أمامك والحي أبقى من الميت ، واستدركت بعدها تمسح دمع بائعة الجمال التي تخاف فراق أولادها بعد أن فارقها زوجها إلى بارئه بعد رحلة مع المرض وانطلقت رفيقات هذه الجلسة النسائية على اختلافهن   يكلمنها عن القدر والايمان ويسلينها ويضحكن كأن الحياة جمعت بينهن منذ عقود  ثم مضت جميلة تكمل حكايتها  فقالت على مسمع من جميعهن : منذ ست سنوات تقريباً تزوجت مرة أخرى رجل طيب مطلق مثلي كان متزوجاً من بنت عمه ولم ينجبا فانفصلا وتزوجني وبعد سنة رزقني الله منه بصغيرتي سهر وقد أسميتها سهر لسهري اليومي في انتظاره فرغم طيبته وحسن معاملته كان يلج في نفور مني بعد فترة قصيرة من زواجنا ..في البداية لم أعرف السبب  وبعدها اكتشفته.....ثم اعترف لي هو أنه مازال يعشق ابنة عمه ويريد العودة إليها وتركي وابنته .....هالني الأمر وثرت لكرامتي فوجدت نفسي مهجورة للمرة الثانية موقوفة لرجل مازلت على ذمته وأرفض الطلاق منه .. أعيل نفسي وأمي وطفلين ..الحمد لله .....وهنا سألتها ذات العباءة ولماذا ترفضين الطلاق ؟ وأجابت في بساطة: يمكنني أن أخدعك وأقول انني أحبه لكنها ليست الحقيقة ..الحقيقة أن الطلاق جحيم لا تعرفه سوى مَن عاشته ..هدم بيت ليس بالأمر السهل ...أخشى على مستقبل ابنتي من قوم لا يرحمون أريدها أن تتعلم وتنشأ سوية محترمة  وأخشى على نفسي من ذئاب أقربهم إلى أبو ابني الذي أتاني طامعاً في مصاغي ونقودي وطلب مني أن أترك زوجي الثاني وأعود إليه بحجة ابنه الذي لا يعرف عنه شيئاً منذ خمسة عشر عاماً .

⃰  ⃰  ⃰

هذا وقد توجه ضباط إدارة المفرقعات إلى خط المترو وجاري فحص الجسم المبلغ عنه .....الاعلام يقتلنا قتلاً بطيئاً هذه الأيام ....بتر جد طارق عبارته ليرد على الهاتف وأتاه صوت ابنه قائلاً : بابا طارق في المترو فأفلت الجد السماعة وأسرع يلتقط معطفه وغادر على عجل ....وفي منطقة افتقدت لكل امكانات العيش الكريم ما عدا التليفزيون المتصل بطبق الارسال جلست أم ذات العباءة المعيلة لأخوتها تُرى أين أنتِ يا ابنتي ؟  بينما كان صوت ابنتها في المترو هناك تحت الأرض يقول : أعمل في محل ملابس  شهير في أحد المراكز التجارية الكبيرة كاشيرة  بشهادة جامعية وضحكت  مستطردة في سخرية: مرتبطة بزميل لي رسب عامين بعد تخرجي رغم انه من دفعتي عملي في المطعم يجعلني نصف محجبة أرتدي الحجاب في طريق ذهابي و عودتي من وإلى منزلي حتى أستطيع الدخول إلى المنطقة حيث أقطن  أما في العمل فمظهري لابد أن  يليق بزبائن المحل وكلهن من الطبقة الراقية طبعاً ومضت تحكي عن خلافاتها المتكررة مع حبيبها المتقاعس فاندفعت سارة تقول لها : اتركيه فوراً فهو لا يستحقك أنتِ أفضل منه تكافحين من أجل أخوتِك أما هو فلا يجاهد من أجلك ، صديقتي انزعي عدساتك اللاصقة وأحبي نفسك كما هي وبكل ضعف الدنيا أجابت ذات العباءة : اتظنين ذلك ؟ فقالت ريما : طبعاً معها حق إنك تستحقين الأفضل وابتسمن في إخلاص ومضت كاميرا (نهى) طالبة السنة النهائية بمعهد السينما تدور بينهن ثم ارتفع صوتها لتسالهن في جرأة : ماذا ستفعل كل منكن إذا خرجت من هنا ؟ وقبل أن تهم إحداهن بالاجابة وفي نظرة شغف من طارق  وتمتمة بذكر الله من رقية وصمت مطبق من المنتقبة ودموع صامتة من بائعة الجمال وضحك عابث من  كل البنات قالت جميلة : ليس هذا هو السؤال الصحيح يا فنانة ...السؤال الصحيح هو ماذا سنفعل الآن في هذه الدقائق واللحظات التي قد تكون آخر لحظاتنا في الدنيا والتي هي آخر لحظاتنا معاً كيف سنعيشها كيف ستغيرنا ونغيرها والتمعت عيون الفنانة في ظفر عندما التقطت الفكرة التي تعنيها جميلة .

⃰   ⃰  ⃰

 في نبأ عاجل أطلعنا مراسلنا أن خطوط المترو مؤمنة تماماً وأن الجسم المبلغ عنه منذ ساعات هو علبة معدنية ملقاة على القضيب  اشتبه بها السائق وليست قنبلة ، هذا وقد أوضح مصدر مسئول انه سيتم استئناف الحركة الطبيعية للقطارات النفقية بعد قليل....

وكرد فعل للخبر الذي لم تسمعه ؛ كانت (جميلة) ترقص حافية القدمين وتحيط خصرها بإحدى طرح ذات العباءة  على إحدى أغنيات محمد منير التي صدح بها جهاز التليفون الخاص بنهى في أول مرة تستخدمه بدون سماعات الرأس ، كانت (جميلة) ترقص وحدها وتضحك ملء شدقيها ...وكأنها في عالم آخر ...أشرق وجهه واستمتعت بكيانها لأول مرة ؛ منذ سنوات لم تشعر بهذه الحرية كأنها تطير في السماء وأمام سحر بسمته  الصغيرة دعت (طارق) فشاركها الحلبة  بدوره ثم جذب سارة من يدها فتمايلت معه في سعادة كأنها ملكة تراقص ابنها الأمير في رواية قديمة  وأطالت النظر إليه لبرهة  تمنت خلالها ألا تفارقه أبداً و بعد دقائق انتقلت  عدوى الرقص لذات العباءة بعد أن تخلت عن عدساتها وظهر لون عينيها العسليتين الرائعتين ثم ل(ريما) التي حاولت محاكاة حركات المصريات بلا جدوى فاتخذت لنفسها إيقاعاً خاصاً أذاب روحها شجناً فسالت منها دمعة كطير ذبيح وامتلأ وجهها بما يشبه ابتسامة تحولت لضحكة كبيرة عندما دخلت  الطفلة الصغيرة بينها وبين جميلة

 ومضت تقلد هذه الأخيرة في براعة أفسحت لها مجالاً قوياً على الحلبة وحركت كفي والدتها بالتصفيق لها وهي تقف بردائها الأسود لتخفي محبات الحياة عن عيون قاطني العربة المجاورة – عربة الرجال –لتشاركها التأمين رقية التي ارتفع صوتها بالذكر بشكل مباغت عندما تحرك القطار بشكل أفقد جميلة توازنها وجعلها تقع أرضاً مع ريما وسارة  وتولتهن مع الأخريات نوبة ضحك تخللتها زغاريد ودموع وشكر للخالق عز وجل واستمر الرقص.. حركة الحياة واستمرت كاميرا نهى في التصوير ...ومضى الركب نحو نور المحطة التي كانت تنتظره في لهفة  وما إن انفتح الباب حتى عاد الوقار للعربة وقبل أن تمضي كل منهن إلى غايتها كان عناق العيون وابتسامات الأمل في تجدد اللقاء وتبادل للأرقام ...أكملته (سارة) على عجل عندما رأت أبيها الذي عانقها في لهفة بينما كان كفها يعانق كف طارق الذي لم يفارقها رغم رؤيته لأبيه وجده على مقربة ومع اقتراب زياد من مجال رؤيتها كان يسرق اهتمام سارة فأخذها بغتة من حضن أبيها ومن كل العالم ... فسافرت مع نظرته  إلى  حلمها الذي خالته يوماً من المستحيلات ثم ما لبثت أن عادت إلى الواقع  لتدير دفة التعارف بين أبيها وطارق الذي رمى الكرة في ملعب أبيه بعد هنيهة وعرفه بالآنسة سارة بابتسامة غاية في البراءة ثم وقف بعدها بينهما يراقب ما يحدث بينما كان الكبار يتبادلان التعارف في وقار وارتياح وابتسامات واسعة انتهت بمناداة الحفيد الصغير ليسجل رقم جده على هاتف والد الفتاة – سارة – وبعد حديث لم تعرف إذا كان قد طال أم قصر مع الأرمل الوسيم كانت هذه الأخيرة تخرج من المحطة إلى جانب أبيها بنصف أذن تسمع مدحه للرجال الثلاثة ونصف عقل ولا قلب لأن قلبها على الأرجح كان يمضي في الاتجاه المعاكس حيث مضى الحفيد والأب والجد وعلى باب الخروج تحسس هذا الأخير جيبه ولم يجد هاتفه ..وبمنتهى الهدوء أخرج طارق هاتفه الخاص ليتصل به وارتفع صوت هاتف الجد ليوقظ (زياد) من شروده على منظر هاتف ولده  وهو يعمل فقال بلهجة ماكرة وابتسامة ذات مخزى مشيراً إلى الهاتف : ألم يكن هذا فاصل شحن؟  فغمز طارق : بلى كان.. و أصلحته  ثم استدرك بمرح مشيراً إلى قلب أبيه ..المهم ألا يظل هذا فاصل شحن يا بشمهندس  وهنا قاطعهم الجد الذي كان مشغولاً بأمر الهاتف ماذا تقولان ؟ وران الصمت  ثم ضحكوا ومضى ثلاثتهم بتدرج أجيالهم وأطوالهم  إلى البيت وكل منهم يفهم الآخرَيْن ويحتويهما ويشعر بهما ، وجلست سارة إلى جانب أبيها في السيارة ولم تكن هناك في الواقع لأن ذهنها الشارد أخذ يردد آخر الأرقام الواردة على هاتفها بلا تواني .

⃰  ⃰  ⃰

وفي طريق آخر ......صاحبت (نهى) كل من ريما وفتاة العباءة إلى المصعد بعد أن تابعت سارة وزياد عن كثب وبمكر  مخرجة تضع بداية لائقة لقصة حب كبيرة ونهاية معقولة لتيه ريما التي اتصلت بوالديها باكية نادمة تطلب الغفران في حنين رُدَ إليها أضعافاً من قلبيهما الحانيين لتشق طريق العودة إلى حيث ترنو دائماً إلى شمس وطنها ...أما ذات العباءة المطرزة فسارت معهم في ثقة وسعادة بالغة بعد أن بعثت برسالة لمَن ظنته يوماً حبيبها لتقطع علاقتها به ثم رمت شريحة التليفون لتعيش كما نصحتها (جميلة) بعينين لا بأربعة وبخط تليفون واحد لا اثنين وبشخصية واحدة  حتى وإن اضطرتها الظروف لبعض التضحية فلتضحي ولكن ليس بروحها الطاهرة لأن الروح أمانة لله لا يجوز اهانتها بحب يسلبها عزتها أو حجاب يُنزَع عن قداستها  ......وخروجاً من المصعد تقدمت المنتقبة بصحبة طفلتها و بائعة الجمال تضحكان بصفاء استغلته الأخيرة لتعطي للصغيرة جزء من بسكويت كانت اشترته لصغارها وقبلتها مودعة بعد أن سلمت على والدتها وتلاقت روحاهما بغض النظر عن الجينز والنقاب لأننا بشر ....وفي تمتمة صوفية محبة لله ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام مضت رقية نحو بيتها ومازالت ابتسامتها سر من أسرار الكون لا يعرفه سوى الخالق عز وجل .

وفي معهد السينما بعد نحو شهرين .....  أظلمت صالة العرض لساعة ونصف وعُرِض على الشاشة الكبيرة فيلم روائي قصير ظهرت البطلة في آخر مشاهده وهي تحصل على الطلاق  ثم انطلقت مع شروق شمس يومها التالي إلى المدرسة المجاورة لمدرسة أولادها لتبدأ من جديد وتحتضنهم من جديد وتعتني بنفسها من جديد بثيابها وشعرها ووجهها  وترقص بلا حدود  ترقص في حب الحياة .....بمنتهى الحرية  ......

وعاد مع نزول تتر النهاية مشهد رقص المترو على أغنية محمد منير يا حمام  مرفقاً باسمها ....اسم الفيلم ........جميلة  Jamila .....الذي خرج للنور بتوقيع نهى مندور الأولى على خريجي دفعة هذا العام قسم الاخراج السينمائي.(تمت بحمد الله)

shababwenos

شباب ونص - مجلة ثقافية وشبابية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1389 مشاهدة
نشرت فى 26 يناير 2014 بواسطة shababwenos

ساحة النقاش

Shababwenos

shababwenos
بنفكر في اللي بتفكر فيه، وبنقولك اللي محدش مهتم بيه.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,132,833

ما الطريقة السليمة لغسل اليد؟