كتبت :بسمه توفيق
القطار يتحرك منذ بداية الخط ........المحطات تمر بأسمائها المضيئة في لمح البصر......يصعد كثيرون ويهبط كثيرون والعربات كما هي ممتلئة عن آخرها بالثرثرة والملل وملامح المناخ الاستوائي أيضاً فالحر والبرد في مترو القاهرة صنوان لا يفترقان عندما يُفتح الباب يطل البرد فإذا أُغلِق ينسحب الهواء البارد مغادراً لصالح الكتل البشرية المتلاحمة في الداخل وعربة السيدات منذ الظهيرة وحتى المساء تظل كما هي مكتظة بالهموم زكية الرائحة شقية بالصمت ومعذبة بآهات الانهاك وأنفاس الخوف ككل امرأة في بلاد الشرق ، مهما اختلفت الملامح تسكن روح الشرق في خطوط اليد والجبين مهما اختلف اللباس ومستوى حقيبة اليد - ان كانت من الجلد الطبيعي أو من البلاستيك تحمل الخضراوات – و النظارة الطبية الصينية الزهيدة أو الايطالية الغالية عديمة الأطر ،الروح تبقى واحدة وهي من الله أما القلوب فتختلف وتختلف معها المشاعر كقلب (رقية) فهو عامر بالرضا يحمل إلى قسماتها أمارات الارتياح وابتسامة تقول لكل مَن يراها الحمد لله على كل حال ويأبى على نفسها أن تتحول إلى متسولة لذلك فقد أعطت لسارة علبة مناديل أخرى مقابل المال الذي أعطته إياها لتنضم لحقيبة تلك الجامعية طالبة الدراسات العليا علبتان جديدتان من المناديل تُضافان لكثيرات اكتظت بهن لا لبرد أُصيبت به أو هوس بشراء المناديل ولكن لأن قلبها كان يلتمس الدفء برؤية ابتسامة تشتريها بابتسامة من ثغرها وكلمة شكر وبضعة قروش كانوا ليصنعوا فارق في يوم تلك المسنة التي جلست قبالتها لو حصلت عليهم لتصل إلى بيتها راكبة بدلاً من مشي يومي أرهق قدميها جيئة وذهاباً من أجل لقمة العيش ...العيش فقط ....ابتسمت بمرارة وهي تتحدث لنفسها بهمس : الهوانم أولاد الأكابر يفاصلن في ثمن الخضرة والليمون و الجرجير المسئول عن إطعام وكساء وتعليم ثمانية أولاد ....ااااااااه الحمد لله ، و بعد بضع محطات ...رحل الزحام و بين رقية وسارة وبائعة الجرجير العجوز جلس طارق بتي شيرت خفيف واضعاً المعطف حول كتفيه ورابطاً كميه حول رقبته وبدا بهامته المرفوعة وجميل قسماته رجلاً بهي الطلعة رغم طفولته وبراءته وجام أدبه إذ لم يجلس إلا بعد أن جلست كل الراكبات سواء على المقاعد أو على الأرض لأن الرجل الحق كما يقول أبوه لا يجوز أن يجلس في حضرة امرأة متعبة واقفة. ....والقطار .......علب الكبريت الملونة المتراصة المربوطة بخيط واحد تصدح توت توت .....اللعبة القديمة البسيطة ..الحركة ..السفر لبلاد تركب الأفيال والأحلام بأرض العجائب أساطير لم يمتها هذا العملاق الكهربائي المتحرك بعنفوان عبر الأنفاق المظلمة فهو يحمل الأمل في قلب العتمة ، من تحت الأرض لفوقها يتحرك كما تتحرك الحياة قائلاً لا ليل سرمدي والنهار مهما تأخر سوف يأتي بأمر الله ...كلمة طالما سمعتها ريما من إياد أيام القصف وهو يجري معها وسط النار ...تهدم البيت رأته يحترق أمام عينيها ..كل شئ استحال إلى رماد كل شئ وبقيت يدها في يد إياد ...واستمرا يعدوان....من مدينة إلى مدينة ...ومن دمار إلى دمار وأكفهما متعانقة بلا كلام الكلام فقط للمدافع والقنابل ودمدمة الطائرات ولعيونهم والسؤال المدوي في رأسها لمَ كل ذلك ماذا يحدث وما من مجيب أبوها ذو اللحية البيضاء والمسبحة الخرساء والقواعد الصارمة في اتجاه وأخوها المتطوع في الجيش في اتجاه آخر وهي لا تعرف أيهما على صواب ولا يهمها أن تعرف مادام معها إياد فهو يحميها من نفسها من الأسئلة من الحيرة من أمها الباكية ليل نهار على أخيها ، ومن أبيها الذي يصب لعناته عليه...وعلى ابنه الوحيد منذ ارتدائه الحلة العسكرية ، من صديقاتها اللاتي يقدمن على ما لا تجرؤ عليه ؛ يخرجن يتعرفن إلى الشبان ويعشقن بينما تقبع في حجرتها المغلقة نوافذها بقضبان من حديد ، وفي بدلة المدرسة العسكرية التي ترتاد ، وفي ألم الاهانة التي عاشتها منذ لطمها أبوها أول مرة لأنها قالت له أنها لا تريد الزواج و سوف تكمل دراستها حينها صمتت أمها صمت المذنب الحامل لعار الخطيئة وتنحى أخوها غير عابئ سوى باخفاء رائحة السجائر بينما كان اياد وراء باب الدار يقف وطرق الباب وما ان دخل حتى خبت النار تحت الرماد وبقيت الدموع وجبن الأم وهمسة من ابن العم من الحبيب جاءتها من خلف قضبان النافذة : ريما.. ستكملين تعليمك باذن الله انتِ حرة يا ابنة عمي حرة من دم أحرار لا سلطة لمخلوق على روحك و إن كان لأبيك عليكِ الطاعة والاحترام ....
فلروحك أيضاً حق في الحب والاحترام ....ريما لا تخافي سأبقى إلى جانبك طالما صمدتي ....كانت مشوشة ..روحها مجروحة تسمعه بنصف أذن وقلب غاضب ودموعها كالشلالات لم يعقها سوى إصبعه ؛ لمسة من إبهامه أوقفت نزف عينيها ... وارتعد جسدها كله للمسته و بكل ذهول الدنيا ثبتت ناظريها إليه فتابع هامساً : ريما ....أنا أحبك قالها وغادر وبقيت أنفاسه في صحن الدار عالقة بالقيشاني والزهور تؤنسها ، وحنانه يتدفق كمياه النافورة ، وتحياته تصلها كل صباح مع أصوات العصافير فتحولت إلى بنت بعدما وقعت قبعتها العسكرية وتحرر شعرها من الأسر بين يديه.... تحولت إلى أنثى ...أنثى ثائرة حرة وعرفت من نار وجنتيها أن كل ثورات التصحيح تحركها النساء حتى ولو كُن وراء قضبان من حديد .
تتبع ..........
ساحة النقاش