كتبت_ نيره مصباح

وحيدة، جلست في المقهي ألتهم كوبا من المثلجات و أفكر في أشياء مبعثرة ليس ثمة قاسم مشترك بينها. علي بعد طاولتين يجلس رجل ثلاثيني يأكل طعامه و يطالع صحيفته في انعزال تام عمن حوله من بشر و أحداث. كان له أذنان كبيران و أنف كبير و شفتان كبيرتان، و كان رجلا جميلا حقا، أو هكذا كنت أراه، و كانت هذه هي المرة الثالثة التي أراه فيها في هذا المقهي.

 و اتخذت قرارا في جزء من الثانية.. سوف أحادث هذا الرجل. هكذا أنا: أتخذ قراراتي سريعا و لا أماطل. بؤساء هم المترددون! اذا أنا -ابنة الثمانية عشر ربيعا- سأذهب و أحادث هذا الذي يبدو في الثلاثين، ربما أكثر قليلا.. أمر مثير، أليس كذلك؟ شعرت باثارة كتلك التي كانت تتملكني دائما قبل ركوب لعبة خطرة بمدينة الملاهي، ذلك الشعور المثير بأنك مقبل علي أمر مثير.. ما أجمله!

 و طرقت أفكر حائرة، كيف سأفعل ذلك؟ كيف سأحادثه؟ فكرت أولا في أسهل الحلول وأكثرها احتمالا لادراك النجاح: أن أذهب و أتمختر قليلا أمامه مستعرضة ساقي الطويلتين النحيلتين، و شعري الطويل المجنون الذي طالما حير كثيرين، و فعلت. قمت و سرت أمامه في زهوي المعتاد مستعرضة كل ما أملك من جمال و عتاد. ما كان منه إلا أن رفع رأسه قليلا فقط عندما مر طيفي من أمامه، ثم نظر من جديد للصحيفة و عاود يلتهم طعامه. عدت إلي مقعدي و أنا أتوعده، هذا الرجل الأشيب ذو الأذنين الكبيرين و الأنف الكبير و الشفتين الكبيرتين.

 في اليوم التالي ذهبت للمقهي حاملة معي كتابا سرقته من أمي، كانت رواية روسية مترجمة للعربية، و قلت "ربما ذلك سيبهره. يبدو كالقوم المثقفين"، و جلست علي طاولة قريبة من المدخل لأضمن رؤيته اياي عند الدخول، طرقت أستمع لأغنياتي الأجنبية المفضلة و أصطنع قراءة الكتاب. عندما رأيته مقبلا أطفأت مشغل الأغاني و تصنعت التركيز الشديد في القراءة. مر هو قبالتي و تمتم "تشيخوف... ممتاز"، و ذهب و جلس علي طاولته المعتادة دون حتي أن يعبأ بالنظر لي.

 وددت لو ذهبت و ضربته بتشيخوف علي رأسه، لكنني لم أفعل. سيطرت علي غضبي و بارحت المقهي. فكرت في البداية أن أصرف نظر عنه هذا الرجل كبير الأذنين و الأنف و الشفتين، لكنني ذكرت نفسي بأن التراجع لم يكن يوما من شيمي. ذهبت للمقهي في اليوم التالي عازمة علي أن أذهب صراحة إليه و أحادثه.. قلبي يدق انتفاضا، إنه ذلك الشعور مرة أخري!

 عندما دخلت المقهي كان هو جالسا علي طاولته المعتادة يتحدث في هاتفه الجوال، بدا لي أنه يعطي المتحدث علي الناحية الأخري من الهاتف ارشادات للوصول للمقهي. شعرت بخيبة أمل، كتلك التي كنت أشعر بها حين أركب لعبة خطرة في الملاهي فأكتشف أنها ليست خطرة و لا شيء.. انه ينتظر صحبة، لن أتمكن من محادثته اليوم. بعد دقائق قليلة دخلت المقهي امرأة جميلة، بالغة الجمال، تنطق ملامحها نقاء و صفاء، لكنها كانت أيضا مفرطة في البدانة. كان عسيرا علي أن أتبين هذا الولد الصغير الذي أتي معها بسبب بدانة المرأة و صغر حجم الفتي اذا قورن بحجمها، كان ولدا صغيرا و قصيرا. نظرت له، فوجدته ولدا صغيرا قصيرا.. بأذنين كبيرين، و أنف كبير، و شفتين كبيرتين، و كان صبيا جميلا حقا، أو هكذا كنت أراه.

 أقبل الاثنان-المرأة الجميلة البدينة و الصبي القصير الصغير- أقبلا نحو طاولة الرجل، ظلت المرأة تتحدث دونما انقطاع عن تفاصيل يومها الغير مثيرة للاهتمام بالمرة، بينما أخذ الصبي يلح علي أبيه في طلب المثلجات و الحلوي، و أخذ هو -الرجل- يوزع نظراته و اهتمامه بينهما في صبر أثار تعجبي.. شعور عجيب حل علي للمرة الأولي بحياتي، اذ شعرت بجمال النضج، أن تكون ناضجا.. رميت بشعري الثائر رمية أطاحت به من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار، وضعت كتابي الروسي المزيف في حقيبتي، قمت بساقي الرائعتين و غادرت المقهي تاركة خلفي بعضا من لا نضجي..

shababwenos

شباب ونص - مجلة ثقافية وشبابية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 744 مشاهدة
نشرت فى 9 نوفمبر 2013 بواسطة shababwenos

ساحة النقاش

Shababwenos

shababwenos
بنفكر في اللي بتفكر فيه، وبنقولك اللي محدش مهتم بيه.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,124,326

ما الطريقة السليمة لغسل اليد؟