كتب - محمود المنياوي
إن الحقيقة لها دائما أكثر من جانب، وليس من الخطأ أن تؤمن برأي وتعتقد فيه الصواب، ولكن الخطأ كل الخطأ أن تظن أن رأيك هو الرأي الأصح وأن ما عاداه محض خطأ لا صواب فيه، لا أحد فينا يتملك الصواب الكامل ولا يعرف الحقائق كلها بل يعرف على قدر ما تبصر به عينه وما تدركه معرفته وما يستنبطه عقله، لكن ليس هناك معصومون من الخطأ بيننا وبعيدا عن الخير المطلق والشر المطلق والصواب المطلق، فإن ما تراه صوابا قد يراه الآخر خطأ وما تراه أنت خطأ قد يراه غيرك صوابا، وقد يكون كلاكما على صواب أو كلاكما على خطأ.
والإنسان الذي يرى الأمور من زاوية واحدة ويرفض باقي الزوايا يسمى في كتابات علم النفس "متطرفا"، والتطرف ليس شرطا أن يكون دينيا ولكن التطرف يقع في فكر أي شخص يرى الأمور بمنظور واحد ويرفض ما عاداه ويعتبر نفسه صوابا كاملا وغيره خطأ محض، ويتطور الأمر لاحقا فيعتبر نفسه وفكره وما يمثله ملائكيا تؤيده ظلال من رحمة الرب، ويرى الآخر وما يمثله شيطانا يحفّه غضب الرب أينما ذهب وكيفما رحل!
ومن المهم في هذه الظروف المؤلمة التي تعيشها بلادنا أن نؤكد هذه الأمور، خصوصا أنها قد يكون لها توابع سيئة على المستقبل، فشعور المرء أنه الصواب يدفعه إلى فعل أي شيء دون أي اعتبار، ويدفع هذا الشعور المرء بأن يموت فيما يعتقد والموت دفاعا عما نعتقد فكرة قديمة وليست فقط في أمور الجهاد والاستشهاد، فالكفار قبل الإسلام كانوا يضحون بأنفسهم من أجل ما يعتقدون من أجل الشهامة والكرامة، ومن أجل العصبية، والفراعنة كانوا يضحون بأعز ما لديهم من أجل النيل والرخاء وكان الموت في سبيل ذلك لا يعد موتا ولكن "تضحية".
وعلى هذه الشاكلة كان الإنسان يبرر فعل أي شيء ما دام يتوافق مع اعتقاده ولا يحاول أن يبحث في اعتقاده هذا أصحيح هو أم لا، وأنا لست في موضع الحكم عما هو الصواب وما هو الخطأ ولكن ما أتحدث عنه أنه إذا رفض المرء أن يرى في نفسه جزءا من الخطأ فإنه سيعتبر رأيه صائبا دائما، وحينها سيعدو متطرفا لا يقبل الآخر بل قد يتهمه في دينه أو عقله أو ما شابه.
وكما ذكرت لن أتحدث من هو الصواب ومن الخطأ فلست حكما، ولكن سأتحدث عن عقليات الصواب والخطأ لأنها لاحقا -وأخشى ذلك- قد تخلق أفرادا يكرهون مجتمعهم ويكفّرونه وينعزلون عنه، معتقدين أنهم الصواب، وسأتحدث عن بعض عقليات شباب جماعة الإخوان المسلمين النقي الطاهر والذي قضى كثير منهم نحبهم -رحمهم الله- دفاعا عما يؤمنون من أفكار، وأخذ قياداتهم يقنعنوهم ببعض حجج آمنوا بها ولم يعتقدوا الصواب إلا في غيرها، وسأتحدث عن وقائع تاريخية أتمنى أن تثبت أنه ليس هناك صواب كامل، وأن الجماعة نفسها تنصلت سابقا من الحجج التي تدافع عنها الآن.
وسأذكر حقائق تاريخية لا أتبع فيها الأهواء ولا الآراء.
فمن المؤكد تاريخيا أن جماعة الإخوان كما هادنت السلطة فإنها تعرضت للظلم في فترات عدة، ولكن المؤكد أن هذا الظلم تعرض له باقي المعارضين، وليس الإخوان وحدهم، وتعرض المرء للظلم ليس مبررا لاستخدام العنف وتكفير المجتمعات وحرقها.
ومن المؤكد تاريخيا أن الإخوان أيّدوا الملك عندما خرجت ضده تظاهرات بسبب إقرار دستور 1930 الذي أعطى للملك صلاحيات واسعة، ثم جاءوا الآن وهم يدافعون عن أنفسهم بقولهم إنهم يتظاهرون سلميا من أجل حياة ديمقراطية ودستورية سليمة، فلماذا إذن وافقتم من قبل على دستور يلغي أي حياة ديمقراطية أو دستورية سليمة؟! إذن المواقف تتبدل والمبادئ أيضا!
ومن المؤكد تاريخيا أن الإخوان المسلمين أيّدوا بقوة الانقلاب العسكري كامل الأركان الذي قام به ضباط من الجيش في 1952، وظلوا عامين كاملين على توافق مع السلطة قبل أن يختلفوا معها، ثم يأتون الآن ويقولون إنهم يتظاهرون سلميا ليدافعوا عن الشرعية ويقفون ضد الانقلاب العسكري! أليس تعريفهم للانقلاب واحدا أم أن الانقلاب إذا جاء في صالحهم أصبح ثورة وإذا جاء في غير صالحهم أصبح عورة؟! إذن فالمواقف تتبدل وليس هناك موقف وحيد!
ومن المؤكد تاريخيا أن المرشد العام الثالث لجماعة الإخوان المسلمين السيد عمر التلمساني تواصل مع حكومة السادات ووصلوا إلى تفاهمات معروفة، كان هدف الأول منها أن تعود الجماعة للعمل العلني مرة أخرى وأن ينشروا دعوتهم ويطبعوا المجلات ويؤسسوا المرافق الاجتماعية، وكان الهدف الثاني هو مواجهة اليسار، وكان نتيجة هذا التوافق أن خففت جماعة الإخوان المسلمين من حدة نقدها للسادات، بل إن الجماعة انتقدت لجوء الجماعات الإسلامية الأخرى إلى العنف.
بل إن التاريخ يقول إن الجماعة لم تكتفِ بهذا الموقف "المعتدل" مهادنةً للسلطة، ولكنها دخلت في تحالفات مع أحزاب علمانية وجاء رفضها لمعاهدة السلام ليس رفضا لسياسة السادات، ولكن رفضا نابعا من مبدأ عدم قبول التعاون مع الغرب وأمريكا، ثم يأتون الآن ويهللون لموقف الغرب وأمريكا! إذن فالمبادئ أيضا تتغير!
وفي أيام حكم مبارك كوّنت جماعة الإخوان المسلمين تحالفا مع حزب الوفد وكان معهم أيضا حزب العمل الإسلامي، ودخلوا انتخابات 1987 التي ألغيت فيما بعد وفازوا بـ17% من المقاعد، ثم واصلوا العمل السياسي أيام مبارك برغم عدم الاعتراف بهم كحزب حتى حصلوا على 88 مقعدا في انتخابات 2005، وأيدوا تعديل المادة 76 من الدستور إبّان حكم مبارك.
وإذا كان الإخوان يدافعون الآن عما يفعلون ويقولون إن المبادئ لا تتجزأ وإنهم يتظاهرون ويعتصمون خوفا من عودة نظام مبارك ودولته الفاسدة، فلماذا تجزأت هذه المبادئ أيام حكم مبارك وقبلوا العمل في هذا ذات النظام الفاسد؟!
ومن المؤكد كذلك أن متظاهري 25 يناير واجهوا رصاص الشرطة وقنابلها ولكن أحدا فيهم لم يمسك سلاحا دفاعا عن نفسه، فوقف الجميع معهم ولم يقف ضدهم الأهالي والبسطاء في الشوارع، بل كان الأهالي الذين وقفوا في مواجهة مسيرات الإخوان كانوا في 25 يناير يلقون عليهم زجاجات المياه والبيبسي والخل لمواجهة قنابل الغاز.
إذن فمن المؤكد تاريخيا أن الحرب حرب من أجل السلطة وليست حربا على الإنسانية أو المبادئ، ولكن الإنسانية والمبادئ تستخدم كوسائل لإذكاء هذه الحرب، وتشويه صورة البعض وتلميع صورة الآخرين، ومن المؤكد أن الإخوان ليسوا ملائكة، فالملائكة لا تكذب ولا تستعطف ولا تغيّر مواقفها ومبادئها من أجل السلطة.
ساحة النقاش