كتب - محمود المنياوي
من الذي أوصلنا إلى هذه المشهد العبثي الذي أصبحنا جميعا مشاركين فيه، لا إجابة واضحة.. ولا دليل..لا شيء منطقي يمكنه أن يفسر مآل الينا من بلاء، ولكن بعض النقد للذات يمكنه أن يكشف جزءا من الجواب مفسرا جزءا ولو بسيطا من هذا الاختلاف الذي استدعي أن يستعدي الأخ أخوه، لا بل أن يقتل الجار جاره، ويقتل المصريون بعضهم كأنهم أعداء! كل طرف ينتمي لمعسكر، وكأننا ليس لنا هدف واحد ولا وطن واحد، وكأننا لسنا أخوة.. لسنا جيران وأصدقاء وأحباء بل انتفي كل ما يربطنا من روابط، حتى روابط الانسانية ماتت فينا، وبات كل طرف يبكي على قتلاه هو ويلوم الطرف الأخر على قتلهم، وكأنه لا حرمة للموت فأصبحنا لا نخوض فقط في الأعراض ولكنا أيضا نخوض في الموت..
ما الذي حدث!، ما الذي جعل كل طرف كل همّه إثبات صوابه وإثبات خطأ الأخر ولو كان الموت هو السبيل في إثبات هذا فليحصي كل طرف قتلاه؟! وبرغم صعوبة الأمر وقساوة المشهد وجرح الوطن، فإن الإجابة على تساؤلي الذي طرحته في البداية هي إجابة بسيطة في نظري إن إجابة التساؤل الذي سالت على جوانبه الدماء الذكية وذهب فداه الشباب وذهب معهم ما تبقى لنا من وطن.. الإجابة ببساطة أن كل فرد فينا أعطي لنفسه شهادة ديكتاتور، وصكها بصكوك من التفرد بالرأي وختمها بشعار "أنا صواب والآخرين خطأ" استخرج كل فرد فينا شهادة الديكتاتور الخاصة بيه وعلّقها في أقرب نقطة أمام عينه وكلما تراءت له الحقيقة نظر سريعا إلى شهادته المصكوكه بأسمه فيعود فيغشى بصره عن كل حق عن كل عدل وصواب.
لقد صنع كل فينا، جميعنا بلا استثناء، ديكتاتوره الذي سار بمشورته واهتدى بهديه وأخذ برأيه واستن سننه وخلق أعدائه، وكما كان كل فينا متفردا بديكتاتوره، كان مجتمعنا هو الآخر متفردا في صناعة طواغيته وديكتاتورييه فصنعنا الآلهة في بلد لا يعبد مواطنيه إلا إله واحد وخلقنا المعصومين في بلد يؤمن أن لا بشر معصوم مهما علا مكانته إلا الأنبياء والرسل، ولكن ما بنا من نزعات تآليهيه تخلق كل يوم ديكتاتور جديد كل ساعة نخلق ونعطي شهادة ديكتاتور لفرد جديد من المجتمع الذي بات مجتمعا من الديكتاتوريين يحملون نفس الشهادة بنفس الأختام لا يفرق بينهم إلا تاريخ الالتحاق بمؤسسة الديكتاتوريين العظماء فهناك من أخذ هذه الشهادة سابقا وهناك من يحصل عليها الآن وهناك من حضّر فيها رسالة دكتوارة وهناك من حصل عليها بإمتياز وآخرين بدرجات رأفة، ولا نزال بأيدينا نخلق موتنا، نحيي طغاتنا، ونلغي عقولنا ونعطي الأمل لبقايا الديكتاتور فينا لكي يصبح إلها يأمر وينهي.
قد تنتهي الأزمة السياسية وتسير الأمور ويضيع ذكر من ماتوا وننسى من دفناهم من الطرفين، ولكن أزمة الوطن ستتجدد كل يوم إذا لم نقتل الدكتاتور ونُميت فينا الطغاة، فعلى كل منا أن يتخلى عن طواغيته الذي صنعها لنفسه فمادمنا بشر فلا خطأ ولا صواب فنحن نسير بين الاثنين.. حاولوا أن تسقطوا الكرباج من أيديكم تجلدوا بيه غيركم بل حاولوا أن تجلدوا به أنفسكم مرة.. أن نرفض أن نعيش على أوهام الآخرين.. أن نمسح صفحات كتبناها بأيدينا عن ديكتاتورين عبدناهم وعبدنا سيرتهم ولم نر فيهم إلا الصواب، وآخرين كفّرناهم ولم نر فيهم إلا الخطأ.. فأعتى العتاه لم يكن شيطانا وأصلح الصالحين لم يكن ملاكا.. فلو كان الأول شيطانا ما ظهر على أرضنا، ولو كان الآخر ملاكا ما كان ليعيش بيننا.
إن الله عز وجل حاول أن يرشدنا إلى الطريق فترك جميع خلائقة يعيشون على أرضه وتحت سمائه يأكلون من زرعه ويشربون من مائه، كافرهم ومؤمنهم صالحهم وطالحهم، لقد رفض الله أن يكون ديكتاتورا، ولو عز وجل لخلق الناس بدين واحد وعقل واحد وجعلهم كلهم واحد وهو رب العالمين وخالق الخلق ومنشئ الكون يقول للشيء كن فيكون، ولكن الله رفض أن يُخرج الكافرين به من أرضه وألا يظلهم بسمائه، رفض ألا يرزقهم إذا اجتهدوا.. بل أعطانا المثل والقدوة لمن يتفكر، ولكننا رفضنا أن نفهم وأصر كل منا أن يصنع ديكتاتوره بيديه.. فهذا يقدس عبد الناصر ويرفض أي إساءة له.. والآخر لا يرى في عبد الناصر إلا منبعا للشرور، وما هو إلا بشر له ما له وعليه، وهذا يعتبر السادات شهيدا ويعتبر محمد عبد السلام فرج مخلدا في النار! والآخر لا يرى إلا العكس ولا شيء إلا العكس وهكذا سارت مقياسينا في كل شيء ليس فقط على الأشخاص ولكن أيضا على الأزمان على التاريخ والحاضر بل بات بعض منا يحكمون على الآخرين بنفس الطريق!!.
إن الحرية ليست فقط مفهوما سياسيا بقدر أنها شريعة الله في الأرض أعطي لكل خلقة حريته حتى أنه سبحانه وتعالى أعطاهم حرية الكفر به ولم يجبر أحد على الإيمان ولكن فقط أرسل الرسل والدعاة والمبشرين والمنذرين ووضع الحساب وخلق الجزاء والعقاب ووضع الطريقين طريق الخير والشر وداعانا إلى الأول وحذرنا من الأخير، لكننا قتلنا الحرية التي وضعها الله فينا قتلناها من أجل أن ينمو بداخلنا طاغوتنا فيقتل كل جميل وكل ذكرى فيرفض الاختلاف ويرفض العقل بل يرفض ان نقف ولو مرة مبصرين ونرفض ما نقوله ونفتح آذاننا لما يقوله الآخر ونعتقد فيه جزء من الصواب ولو مجرد جزء من الصواب.
وفي النهاية فإن الاختلاف سنة كونية ولكن الخلاف أمر ابتدعه البشر بخلقهم لطواغيتهم لرفضهم التفكير ولإعمال العقل وإعجابهم بنفسهم وصكهم بشهاداتهم الديكتاتورية بختم مكتوب عليه "قولي صواب لا يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ لا يحتمل الصواب" ويسب غيرة ويتهمه بالكفر والفساد والضلال فيما يسبه الأخر باتهامات الخيانة والعماله ونسوا جميعا أن أشد الناس حماقة أقواهم اعتقادا فى فضل نفسه وأن أثبت الناس عقلا أشدهم اتهاماً لنفسه، وأن أحب الناس إلي، من رفع إلى عيوبي، فلا تغتروا بآرائكم ولا تخلقوا طواغيتكم اقتلوهم في أنفسكم كي يحيا الوطن.
ساحة النقاش