كتبت : بسمه توفيق

واستلقت على السرير الذي طالما كان شاهدا على أحلامها بالفارس الحبيب وخوفها من المجهول وبكائها دونما سبب فى ليالي الشتاء محاكية المطر المنهمر خارجا ومتسائلة عن غياب القمر فى غياهب السحاب ،لتتساءل هذه المرة عن كل شئ ، نعم كل شئ.. عن الحب و الحياة والغضب والغيرة والفراق والسعادة فى غمرة ضباب يسيطر على عقلها بالكامل ليترك  الدفة لقلب يخفق فى عنف وخوف وقلق وأشياء أخرى لا يعرف لها أسماء ، مهدت طريقا لدموع جرت متلاحقة على وجنتيها تحدث الوسادة وتعيد  هذا القلب إلى سابق عهده، صغيرا يقبل على المستقبل ويخافه ،كبيرا لديه القدرة على تخطى كل ما قد يعكر صفو حياته، انه قلب أم ، قلب فتاة تحب لأول مرة ، انه بكل اختصار.. قلب امرأة.

وفجأة عادت منى من هواجسها لتمسح دموعها بكفها  وتنطلق خارجا  تسبقها سلوى التى تعالت ضحكاتها وهى تفتح باب المنزل وتقول : ها هى  قد جاءت  ثالثة المجانين والمتسببة فى تجويع  أهل هذا المنزل  المساكين ..ادخلي يا آنسة.. وبالفعل دخلت جيهان وابتسم كل ما فى المنزل لإطلالتها ..فقد كانت وبحق ضحكة هذا البيت لكن هذه الضحكة اليوم كانت أكثر حيوية وإشراقا ..ألقت السلام ..وحلقت كفراشات الربيع الى أحضان أمها وطبعت قبلة على جبينها ..ثم استمر تحليقها فى عودة الى سلوى تقبلها أيضا  واستغرقت نشوتها لحظات وسط دهشة وابتسام وتساؤل لم يقطع أيا منهم سوى ابتسامة منى التى استدعت تلك الصغيرة الهائمة الى أحضانها وأخيرا نطقت جين : منى وحشتينى.. وحشتينى جدا ..ازيك وازى" أبيه" عمر  ألم يأت معك؟

ومع رد منى بأن عمر مشغول انطلقت صيحة جذلة من جيهان : سوف أسامحه هذه المرة ..هذه المرة فقط ..ألن نأكل يا سلوى ..أنا جائعة و دخلت بخفة لمداعبة سلوى فى المطبخ بينما تبادلت أمهم مع منى نظرات العجب والابتسام ..جيهان  مرحة دائما لكنها اليوم تطير فرحا، وهى فائقة فى عملها دائما ..لكن ما من عمل أنجزته جعلها بهذا الحبور ..وهى متعاونة دائما ..لكنها المرة الأولى التى تعود فيها من العمل لتستقبل المطبخ بل والكلام عن الطعام بكل هذا الترحاب ..وبين فرحة وارتياب كانت الأم واثقة أن ثمة ساحر واحد يقدر على تغيير كل هذه المسارات..وأن جين سوف تفضى بكل ما لديها اليوم لتتغلب على كل مالدى أمها من قلق وحيرة حيالها بمساعدته ..انه الحب..لكن الحب وحده لايكفى لذا، فقد بقت ابر الخوف توخز قلب هذه الأم على عكس منى التى وثقت واطمأنت ولم تفارقها الابتسامة ..............ففي غضون لحظات ، كانت جيهان أمامها على السرير ، و عيناها تنطقان بكل شئ  ، وسط إحاطة كاملة من عيون كثيرة  لم تكن سوى عيون عرائسها اللاتي شاركنها كل شئ فى هذه الغرفة الصغيرة ، بما تحويه من مكتب صغير ، وخزانة ملابس ، ولوحات وألوان ، فبالإضافة  الى كونها مرشدة سياحية ممتازة ، جيهان أيضا تهوى الرسم وبالتحديد رسم وجوه الأشخاص  شريطة أن تكون لهم ملامح مصرية خالصة، فهاهو وجه والدتها ينطق بالحنان فوق السرير إضافة الى صور منى وسلوى بريشتها أيضا على الحائط المقابل وغيرهم من الصور الكثيرة.. الكثيرة ،  ففى غرفة جين من الصعب على أى إنسان تمييز اللون الحقيقي للحائط إلا إذا كان من أهل هذا البيت ،  وفى وسط هذا الزحام كانت فى الركن البعيد لوحة جديدة لم يكشف الستار عنها بعد ، آن أوان ظهورها اليوم مع سؤال منى: ماذا هناك يا صغيرتي.. أهو الحب؟ ومع إيماءة من رأس جين تابعت  : ومن سعيد الحظ؟

وهذه المرة لم تجب و إنما تحركت خطوات قصيرة الى الصورة المغطاة فى ذلك الركن فى ظل لهفة وفضول واستغراب أختها الكبرى التى عقدت المفاجأة لسانها بحق .....

 إذ لم تكن الصورة الواضحة الملامح  صورة لرجل مجهول سوف تتعرفه منى للمرة الأولى عندما يأتى لخطبة أختها الصغرى ، لكنها كانت تعرفه عن كثب ..بل تعرف كل شئ عنه تقريبا .. لم تكن الصورة مجهولة بل كان كل ما وراءها مجهولا يصعب تفسيره ...........لم تكن الصورة سوى صورة الباشمهندس أحمد...

وبكل التضارب داخلها قالت منى بعد صمت المفاجأة : أحمد.. وأضافت كأنما تحادث نفسها  : لكنه معجب بممرضة والدته فقالت جين فى خفوت : أمة الله الجالسة أمامك هى الممرضة المذكورة  ومع اتساع حدقتا منى استمرت جين فى سرد المفاجآت ..وبعد قليل خرجت الشقيقتان من الحجرة متشابكتا الأيدي وصولا الى مائدة الطعام وقد انتقل بريق عينى جيهان الى منى فى ظل ارتياح وفضول الأم التى فطنت كل شئ من نظرات منى وخبث سلوى التى أطلقت تعليقات ضاحكة على وضعهم هذا ، هذه التعليقات  رغم خفة ظلها لم تجد أذان مصغية عند أى منهم   ،  فمن أمام المائدة فطنت جيهان أنها كشفت سرها وألقت بأحمالها ومن المفترض أن ترتاح لكنها رغم ذلك لم تكن فى ارتياح ..إذ لن تأتى الراحة بالنسبة لها  إلا عندما تدخل بيت الباشمهندس ليس كممرضة و إنما كزوجة وحبيبة له تنادى والدته كما تنادى والدتها وتبيت لياليها معها لترعاها من أجل عينيه ..عينيه فقط، وسبحت فى ذكرياتها عائدة الى الوراء ستة أشهر  تحديدا الى ليلة زفاف منى حين رأته للمرة الأولى  بعيدا عن الجميع يتحدث عبر أثير الهاتف ثم يغادر المكان بأسره فى خطوت سريعة، لم تدر حينها لماذا تعلقت عيناها به رغم أنه لم يرها ولم يتحدث إليها ، رأته فقط  يسير  فى حراسة نجمات السماء التى  همست لها : هاهو ذا.. لقد جاء .. وسوف تلتقيان لكن ليس الآن..لأنه لابد أن يغادر .. أنتما على ميعاد .........وانتظرت الميعاد لا تعرف لماذا؟ وإيماءاته وخطواته وجدية وجهه أمامها لا تفارق خيالها أبدا الى أن ذهبت لزيارة منى فى بيتها  بعد أسابيع قليلة فوجدته هناك وسط  وفد كبير من زملاء وزميلات منى فى العمل ذهبوا لتهنئتها ، هذه المرة رأته ..رأته عن كثب لكنه لم يرها أيضا، وجنت لماذا لم يرانى؟ وسألت أختها: من هؤلاء ؟ فأجابتها وبدأت تسأل عن التفاصيل فأجابتها  لتشتمل إجابتها  على  قليل من التفصيل عن كل منهم فعلى الرغم من صداقة الشقيقتين إلا أن جين لم تكن تلم بهذه التفاصيل لانشغالها المستمر  سواء بالدراسة أو العمل أو الرسم ، وهو ماجعل عمر يتساءل : ألم تذهبي لمنى فى الشركة من قبل ؟  فهزت رأسها نفيا لتترك الحديث يأخذ مجرى آخر  ......... 

 وتركتهم بعد أن عرفت أن اسمه أحمد ..باشمهندس أحمد

 و فى لحظة ما على المائدة تشابكت خيوط الفكر بين جين ومنى التى رأت  أمامها ما حدث عندما جاء أحمد الى العمل تسيطر عليه الهموم لأنه اضطر لترك أمه وحدها  دون رعاية بعدما اضطرت آخر ممرضة للمغادرة من أجل عقد عمل يمنيها بمستقبل أفضل فما كان منها كزميلة تعاطفت معه إلا أن عرضت عليه وساطتها بينه وبين صديقة لها تعمل فى دار لرعاية كبار السن  ، علها تساعدهم فى إيجاد ممرضة بشكل يتلاءم مع ظروف عمله وراتبه و احتياجات والدته المريضة ، الأمر الذى جعل منى تحكى المسألة فى منزل والدتها ، بل وتترك عنوان أحمد و رقم هاتفه الى جانب الهاتف سهوا...............وهذا تفسير منطقي لذهاب جيهان بسهولة جعلت أحمد يشكر منى على اهتمامها معتذرا وظانا أن الممرضة الجديدة جاءت عن طريق الاستغاثة التى أطلقها فى إحدى المحطات الإذاعية منذ أيام والتي كان قد أخبرها بها أيضا ، لتنطوي صفحة اهتمام منى بالأمر و تكتفي بالسؤال عن والدته من آن الى آخر فى أحاديثهم العابرة كزملاء عمل ،  وتبدأ صفحة اهتمام جين بالأمر ..فقد ذهبت إليه باسم جيهان رأفت  حتى لا تضطر للكذب والانتحال وفى الوقت ذاته حتى لا يكتشف حقيقتها عن طريق تشابه اسمها مع اسم  منى عبد الرحمن رأفت، مستخدمة اشتراك المترو الذى يحمل نفس الاسم كإثبات شخصية  بداع نسيانها بطاقة الرقم القومي مستعينة على خدمة ورعاية والدته بالله عز وجل وبخبرة متواضعة فى التمريض اكتسبتها من دورة تدريبية كانت قد حصلت عليها مؤخرا ، وبحنان جارف تجاه أم لها ابن وحيد تتعلق به بشدة ، هذا التعلق الشديد مع عدم وجود أقرباء ، جعل هذا الابن يضحي بكل أحلامه فى السفر والزواج -حيث تجاوز الثلاثين بعامين- من أجل والدته  بعد أن أصبح عائلها الوحيد بوفاة والده واعتلال صحتها  ، وهى أمور جعلتها تحبه أكثر وتتعلق به أكثر على الرغم من فارق السن بينهما و البالغ 9 سنوات ورفضها المسبق لأن يزيد هذا الفرق عن 5سنوات فقط ، فى احتمال رهيب لنظرات وتساؤلات وانتقادات زملائها لتأخيرها وتبديل الورديات الخاصة بها معهم و استبدالها للخروج مع الأفواج السياحية -وهو عملها الذى تقدسه- بأعمال إدارية سخيفة تستلزم وقت أقل ، وهى أمور جعلتها تتذوق طعم السهر والإرهاق لأول مرة على نحو لاحظه جميعا المقربين إليها ، فى حين لم تكن تنتظر شيئا فمجرد وجودها فى مكان يحمل أنفاس حبيبها ويجعلها تحمل عنه إحدى مسئولياته وحده يجعلها تشعر بالسعادة- فلم تكن تحلم بأكثر من ذلك- ، الى أن حضر اليوم من العمل وقبل أن تغادر ناداها وجلس إليها فى الصالون على مرأى ومسمع من والدته  وقال لها بعد مقدمات طويلة أنه يحبها ويريدها ويحتاج إليها  ولكم سعدت بذلك ثم أخبرته من هى،  متوقعة منه أن يغضب وبالفعل غضب جدا لاسيما عند معرفته بأنها شقيقة منى وذلك بداع أنها أخفت حقيقتها عنه فأكدت له أنها لم تخدعه وأخبرته فى معرض حديثها أن شقيقتها   لا تعرف شيئا ، ولم تجترئ  بعدها على إكمال المناقشة فغادرت المنزل تاركة إياه وراءها بلا أمل، ليلحق بها معيدا كلماته مرة أخرى  فى غير تردد طالبا منها تحديد ميعاد مع والدتها .

وفى خضم العبث بملاعق الطعام  التى داعبت الأطباق فى عشوائية كانت حبات الأرز تتأرجح ما بين المعلقة والطبق دونما وصول الى أفواه أى منهم ،حيث جاء رأى منى ليحتل عقل جين هذه المرة بنصيحة مفادها أن ما فعلته من إخفاء لحقائق كثيرة تخص الأمر فى الأشهر الماضية لم تكن تصرفات سليمة إذ لم تخل من الكذب والاختلاق  وهذا ما ستتحمل مسئوليته وجزاءه أمام نفسها ووالدتها ، أما ما آلت إليه الأمور وطلب أحمد ليدها  فهي صدفة واحد فى المليون ما كانت لتحدث لولا أن الله تعالى أراد أن يحسم الأمر ويضعه فى موضعه السليم بين يدي من يهمهم أمرها    فإما يقبلون وفى هذه الحالة سوف يكون اختيارها منذ البداية ونصيبها وعليها أن تتحمل كل ما فيه من حلو ومر ،أو يرفضون وفى هذه الحالة تكون قد استفادت من التجربة لتعود حياتها للمسار الطبيعي الخاص بها ولتحتمل آلام الفراق وتحمد الله على وقوف الأمور عند هذا الحد ..

مؤكدة لها أنها  ثقتها فيها مازالت قائمة وراجية إياها ألا ترى أحمد بعد اليوم ، مضيفة أنه لا اعتراض لها على شخص أحمد و إنما الاعتراض على طريقتها فى اقتحام حياته و التى تفيد بأنه حينما أحب.. أحب الممرضة وربما لن يحب المرشدة السياحية على الرغم من كونهما روحا واحدة فى الوقت الذى قد لا ترضى فيه أمها بأن تهب زهرتها الصغيرة لتكون ممرضة بدلا من أن تستقل بحياتها لاسيما مع عدم وجود إمكانات أخرى لأحمد تجعلها تقتنع كأم  -خصوصا إمكاناته المادية-

وتكررت الكلمات فى ذهن جين عدة مرات  ولم يقطعها غير صوت سلوى التى صاحت تقول :وحدوه وكلوا لأني باختصار تعبت فى تحضير هذا الطعام، وياريت تتكلموا  .. أقولكم أنا هاتكلم.. على فكرة يا جين يا حبيبتي أنت هتتحصلى على راتبك بعد ثلاثة أيام بإذن الله لذا أرجوك ألا تنسى اقتطاع حصتك فى مصروف البيت كالعادة  فردت جين : كم أنت دقيقة يا سلوى ..ثلاثة أيام ..لم فى أى يوم من أيام الشهر نحن؟ فقالت الأم بحزم وثبات شديدين وكأنما توجه رسالة عبر المائدة غير القصيرة: اليوم هو 20يناير2009 ....

تتبع ......

المصدر: شباب ونص
shababwenos

شباب ونص - مجلة ثقافية وشبابية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1317 مشاهدة
نشرت فى 15 فبراير 2014 بواسطة shababwenos

ساحة النقاش

Shababwenos

shababwenos
بنفكر في اللي بتفكر فيه، وبنقولك اللي محدش مهتم بيه.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,127,863

ما الطريقة السليمة لغسل اليد؟