كتبت_ بسمة توفيق

تتصاعد أصوات أبواق السيارات وتستمر الخلافات بين مَن اقتحم الحارة المرورية دون وجه حق وبين المتضررين من الزحام وتعطيل المصالح ...حركة السلحفاة تتوقف تماماً ....يزداد الأمر تعقيداً فالقاهرة تعيش ساعة الذروة المرورية على مدار الساعة وتعيش البرد أيضاً على مدار الساعة وما أشبه الحياة فيها باشارة مرور كبيرة يقف فيها الناس ولكل امرئ منهم شأن يغنيه كل داخل سيارته ....يتسابق مع الآخرين للوصول ولا أحد يصل فهاهي فتاة تنتقل بسيارتها عشوائياً لتقف محاذاة سيارة (ايهاب) وسط سخط من الرجال ولعنهم لقيادة السيدات وتتحدث بلا مبالاة بالغة عبر الهاتف المحمول وعلى ثغرها ابتسامة عريضة استحالت إلى أقوى أمارات الألم على وجه (شيرويت) التي كانت ترهف السمع لزوجها كما اعتادت دائماً ولكن دونما قدرة منها على رد أو تعليق فقط كانت مغمضة العينين تتشبث بجلبابها بأصابع أنهكتها الأيام وفارقت الدعة والترف والأوتار لتعزف على وتر واحد موحش الصوت فقد كانت تعلم أنها كمَن يرمي النرد عندما قبلت ايهاب زوجاً لها رغم تحذير أبيها من كونه من بيئة مختلفة وتربية مختلفة وعقلية مختلفة عنها وأن مثله ممَن كانت أيامه الأولى في بيئة منغلقة  مهما جاب الشرق والغرب يظل ابناً لأرضه الاولى  تشده جذوره  إليها فيحتفظ  في طباعه بالشيم الكريمة لرجال الشرق  وتحجرهم البغيض أيضاً وهذا يدفعه دائماً - ومهما تشدق بالمدنية والحضارة - إلى البدائية في معاملة النساء ككائنات لابد أن تشكر الله على بقائها حية وأنه لم يتم وأدها وتدين بذلك الفضل للسيد الذي ترزح تحت وطأة رغباته ونزواته وسجنه ....  لا تجزعي يا ابنتي  فليس كل الرجال كذلك لكن التكافؤ المفقود بينك وبينه وابتسامته المرسومة دائماً ومظهره البارق كالنجوم لا يثير اعجابي بقدر ما يثير شكوكي خاصة مع غموض فترة من حياته قضاها بالخارج .... كلمة قالها ابوها نكأت مخاوفها وبددها ايهاب بحنانه واهتمامه فهو لم يحبها وان أسمعها كلمات الحب آلاف المرات ومع ذلك فهو  لم يحبها أبداً..كانت تعرف ذلك منذ البداية ولكنها كانت تحبه وتشعر بثمة رباط من حنان يشدها إلى روحه النقية وقلبه القلق دائماً و تؤمن بامكانية زراعة الحب الحقيقي معه ولم تيأس من ذلك حتى مع تبدل أحواله وزهده فيها ومعرفتها بأنه يخونها مع أخريات منذ أصبح بلا عمل وانكسرت كبرياؤه عندها صارت هي الرجل والمرأة في البيت تنفق وتخدم في صبر وأمل  أما هو فإما نائم أو في الخارج لأيام لا تعرف عنه شيئاً سوى العطر النسائي الذي يفوح من ملابسه  وأنه لم يعد يقول لها صباح الخير  أهان روحها بالاهمال وحرمان (ميس) من ضحكته لصوتها كل صباح  ... رغم كل ما حدث كانت هذه هي مشكلتها الكبرى إذ  لم تعد صباحاتها تبدأ  بالتحية التي طالما حلمت بتلقيها من شريك حياتها ليبدأ مع كل يوم من حياتها عمراً جديداً .

⃰  ⃰  ⃰

 اختل توازني بعنف عندما ضاع مني كل شئ ، وهالني أن يفلت مني الزمام ، فقد ضاعت كل مدخراتي في تأسيس شركة سياحة صغيرة وُئدت في مهدها بسبب ما مرت به البلاد من عدم استقرار أمني وسياسي وصرت بعد ذلك من عاطلي الثورة ...... وعاودتني ذكريات انهياري الأول من جديد ووجدتك مع ذلك قوية شامخة وأنا آخذ في السقوط ، كاره لتسلط ذات المال ومع الوقت صرت أرى فيكِ صورة لزوجة أبي تملكين وتحكمين تملكين المال وتحكمين البيت وأنا أعود من جديد للصفر ...وحيرني لماذا لا تتركيني رغم أنني صرت أسومك سوء العذاب - فأعلنت عليكِ الخيانة وأخذتكِ إلى وأنتِ في قمة الضعف و الانهاك و..جردتك من دعائم مملكتك فبعت متاعك أمامك  ولم تعترضي – بل لماذا لا أتركك رغم كرهي لصورتك ولقوتك وشموخ رأسك التي تريني كم أنا ضعيف وجبان وخاسر ...كنتِ مرآة لضعفي يا شيرويت وكم آلمني ذلك فآلمتك علك تقنطي وتضجري ولم يحدث  ، ولم أفهم ما يحدث ..... إلى أن رأيت (ميس) تبتعد عن البيت اليوم ... ورأيت أحلامك تبتعد عنكِ من أجلي ومن أجل بيتنا  ... وعلمت أنني أحبها أحب خشبها وأوتارها التي كفت عن الغناء منذ ذلك اليوم الذي سخرت منها فيه ...كفت حزينة غاضبة وسكتت ونزفت كما تنزفين الآن وأنا السبب وعلمت أيضاً أنني أحبكِ ...نعم أنا أحبكِ وأشكرك لأنني برئت من علتي وعقدتي بسببك وبسبب صبرك على ....من الآن سوف أحاول وأكون لا منتقم بل عاشق ....سيكون لدينا أطفال وستعلميهم العزف وستعود (ميس) ....سوف أرجعها لكِ بمجرد أن أطمئن عليكِ سوف أذهب لاسترجاعها وستعودي لبيتك ملكة ياحبيبتي قالها وابتسم بحنان ثم أعطت الاشارة الضوء الأخضر واهتز جسد النازفة بعنف سقطت على أثره يدها متحررة من قيود الحياة وسقطت من جيبها ورقة رقدت باستسلام إلى جانب خاتم ايهاب على الأرض.

⃰  ⃰  ⃰

في مكان موت زوجته ...بقي ايهاب نائماً لأيام في المقعد الخلفي للسيارة .....بقي يبكي ويخاطب روحها ويتساءل عما إذا كانت سمعته أم لا ..وطالت شعيرات لحيته وتقرح جفناه ...بقي في الشارع المسئول عن موتها بزحامه الذي لم يحزن لموتها وبقي صاخباً لم يصمت لم يصرخ ولم يعاني .....آآآآآآآه يا حبيبتي هل سمعتيني هل سامحتيني ؟ آآآآآآآآآآآه وأطلق زفرة حارة أعقبها مباشرة صوت الحق يرتفع إلى عنان السماء أن الله أكبر وليعلن  عن فجر جديد وأمل جديد وأن الله غفور رحيم  وبعد أن غسل روحه  بالصلاة عاد للسيارة مرة أخرى فوقعت عيناه على خاتمه والورقة الملقاة إلى جانبه فأعاد اسم محبوبته إلى حضن اصبعه ثم أخذ يتأمل الورقة بدمع يبتسم .

⃰  ⃰  ⃰

بعد عدة شهور كانت شركة شيرويت للسياحة تعلن عن موعد افتتاحها ، بحضور أصدقاء الراحلة العزيزة والصديق الوحيد الذي بقى لايهاب بعد سفرها الأبدي لقد عادت ميس من جديد عادت لمكتبه إلى جوار مكتبه عادت تنير حياته وتثير وإعجاب كل مَن يزوره فهذا الأرمل الشاب تحول لآلة لا تعرف سوى العمل ولا تبتسم ولا تدب فيها الحياة إلا إذا نظرت لشموخها فهي منها وتشبهها وهي رسالتها الأخيرة له فايصال بيعها كان في السيارة يقول له بصوتها : استعيد (ميس) من أجلي وحافظ عليها ولا تبيع أحلامي مرة أخرى وتعلم كيف تسامح نفسك وتحبها لأنها تستحق فرصة أخرى و  لأني لن أكون هنا لأسامحك مرة أخرى ! 

shababwenos

شباب ونص - مجلة ثقافية وشبابية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 714 مشاهدة
نشرت فى 24 ديسمبر 2013 بواسطة shababwenos

ساحة النقاش

Shababwenos

shababwenos
بنفكر في اللي بتفكر فيه، وبنقولك اللي محدش مهتم بيه.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

3,528,000

ما الطريقة السليمة لغسل اليد؟