كتب_ أحمد زكريا
على أرض يكسوها الثلج، كانت قدماه تترنحان غير قادرة على الوقوف، ليس لضعف بدني إنما لرغبة منه في العودة و عدم البقاء في هذا البلد المنزوعة روحه
بعد خطوات قليلة من خروج من صالة المغادرة في مطار ستوكهولم، حاول أن يتناسى ما حدث له خلال ثلاث سنوات من العبث و اللانسانية والدماء التي خضبت كل ما يحيط حياته المغتالة،لكن عبثًا ما كان يحاول، يعلم أن ما رأه في هذه الشهور لن يمحوه الرحيل، لن يمحو الحب هذه المشاهد من ذاكرته التي تمنى أن تكون مثل ذاكرة الأسماك، هو أمر أقوى من قدراته البشرية المحدودة !!
في غرفة مغلقة، العتمة فيها تخنق الأنفاس، كان منذر ابن العشرين عامًا جالسًا لا يعرف ماذا يفعل، و ماذا فعل حتى يكون هنا؟ كاد ينسى ملامح وجهه الجميل الذي كان يمتدحه كل من مر به. لم يكن بهاء الطلة فقط هو مثار اعجاب من يعرفونه بل كانت دماثة أخلاقه و حياؤه الذي يقارنه البعض بحياء الفتيات. أثناء ساعات التفكير التي لم تتوقف بدأ باب الغرفة في أن يُفتح، و بصوت أجش اخترق الجُدر: قوم يلا،سعادة البيه الظابط عايزك ؟
بعد آكثر من170 ساعة من الجلوس في الظلام، بعد أن كان قد أيقن أن قدرته على الرؤية قد انعدمت،خرج منذر مع الشاويش، الذي لم يكن مرتديًا أي زي عسكري، بل كان زيه عاديًا لكنه لم يكن شخصًا طبيعيا في ملامحه، فصوته كان أرق ما فيه !!
أمسك الشاويش بالشاب الصغير من تلابيب قميصه و كأنه عصفور يحاول الفكاك من صياد لكنه مافتيء أن يفعل. ظلت عيناه تحاول التأقلم مع الضوء حتى وصل لغرفة ضابط الأمن الوطني .
كان جالسًا على أريكة يتناول وجبته الفاخرة و يستمع إلى أحد مذيعي البرامج المرموقين في نظره. كان حضرة المذيع يكمل مقطوعته في سب السوريين المقيمين في مصر، ناعتًا إياهم بأقذع الألفاظ، و تنهال عليه المكالمات مباركة ما يقول. كان وجه سعادة الباشا الضابط المنتفخ من كثرة الطعام منفرجًا من كثرة السعادة جراء مايسمع !!
دخل منذر ووقف أمام الضابط لبضع دقائق دون أن ينبس الرجل المهم بكلمة من كثرة الطعام الذي يملأ فمه،ثم استقام من جلسته و توجه للشاب الصغير و يداه يملأها بقايا الغذاء ثم أمسك به ومسح أصابعه في ملابسه ثم زعق في وجهه قائلا: إنت يا روح أمك بتحاول تهرب من البلد، طب لما تحاول تهرب خليك ناصح، مش تدخل من المطار عادي كده و تفكر نفسك هتعدي، إنت و الشراميط اللي دخلوا البلد ساعة ما الزفت مرسي كان هنا مش هتتكرر تاني، البلد كانت سايبة و إحنا رجعنا
ومسكناها، اسمك ايه يلا ؟
لم يستطع أن يرد و كأنه نسى اسمه، لهجته السورية و الكلمات المصرية التي يعرفها و كأنها انمحت من ذاكرته، ثم قال متلعثمًا مرتبكًا بين لهجتين: و الله يا بيه أنا ما عملت حاجة،أنا كنت عايز أسافر أدرس بره، و ما عملتش أي إشي مش قانوني
فرد عليه :إنت هتحكي لي قصة حياتك بروح أمك، أنا بسألك اسمك أيه؟ ولا استنى أقوم أشوف ملفك!!
توجه إلى مكتبه و فتح الملف ثم نظر إليه: منذر؟ إنت هنا لوحدك ؟ و فين أهلك؟ واضح إن أبوك كان مقتدر و عنده فلوس في سوريا، ما سافرتوش بلد اوروبي ليه؟ ولا جايين تقرفونا هنا، و تقطعوا على المصريين في رزقهم وأكل عيشهم !!؟؟
كنت مسافر السويد تعمل أيه ؟ بص عشان ما توجعش دماغي و نجيب من الآخر، قدامك حل من اتنين،إما إنك تمضي على إقرار حالا بالتنازل عن إقامتك في مصر للأبد أو إنك تفضل منورنا هنا لأجل غير مسمى !! ها قلت أيه يا حلو؟
بين فكاك مأمول، و بقاء شبه محتوم، لم يستطع أن يتجاوب مع العرض المقدم له، ظل صامتًا حتى بعث الضابط للشاويش كي يأخذه مرة ثانية للزنزانة. خرج في يد الشاويش وعقله مشوش لا يعرف ماذا يفعل؟ ثم وجد الشاويش يهمس في أذنيه قائلاً: بص يا بني لو عايز حد يخلص لك المصلحة دي وتخرج من هنا أنا أعرف محامية ممكن تخرجك من هنا، بس لازم تدفع فلوس عشان نخلص بسرعة !!
فنظر إليه وفي عينيه استغاثة: تطلب إللي بدها إياه، أنا بدي أخرج هلأ، لكن بدي أرجع بعدين عامصر !!
فأجابه الشاويش الذي يقترب من الخمسين عامًا: طيب أنا هادخلك الزنزانة دلوقتي و أكلمها وأقولك هنعمل أيه !!؟؟
دخل زنزانته، وبعد دقائق فتح الشاويش الباب معطيًا إياه الهاتف ليتحدث مع السيدة "المحامية" : ألو، أهلا و سهلا، شكرًا أستاذة على مساعدتك، أنا بدي أخرج من هون و أسافر بس مو بدي أكون مطرود أو ممنوع من الرجوع لمصر!!
بصوت فيه من الهدوء ما يكفي لمنحه الثقة، أجابته قائلة: أكيد، بس الموضوع ده هيتكلف كتير، هتقدر؟
إنشالله بقدر، بس الله يخليكي بسرعة أنا أخدت الفيزا بطلوع الروح و راح تنتهي خلال أسبوعين!!
هنحاول بس هاخد الفلوس منك إزاي ؟
هاكلم حضرتك كمان شوي بعد ما اكون حاولت اتصرف !!
انهى مكالمته معها، ثم استأذن الشاويش الكهل في مهاتفة لأحد أصدقائه من للبحث عن المال، و بعد محاولات متكررة قام بجمع مبلغ من المال و هو في شدة الإحراج من أصدقائه الذين لم يعتد معهم على ذلك فهم يعرفون عنه عفة نفسه اللامتناهية. إتصل بعد ذلك بالمحامية و أبلغها بالأمر حتى تلتقي بأصدقائه. تكررت المكالمات بين منذر و أصدقائه و تزايدت مطالبات المحامية من الأموال دون أي تقدم ملحوظ، بل أن شهرًا قد مر و انتهت فترة تأشيرة دخول السويد، و كأن شيئًا لم يكن.
تعجب أصدقاء منذر من أسلوب المحامية الذي كان فيه ما يكفي من الريبة، فأسلوبها لم يك أسلوب إمرأة فاهمة لأمور القانون، كانوا يشعرون أنها تستفيد من الأمر دون أن تقدم أي شيء مفيد يساعد صديقهم. بدأوا التقصي وراءها و ذهبوا للسؤال عنها في نقابة المحامين لكنهم لم يجدوا لها سجلاً نقابيًا، بدت الشكوك في التحول لليقين، حتى كانت المكالمة التي حولت هذا اليقين إلى الجزم، صديق المحامية المزيفة والذي كان يدّعي كونه محاميًا أيضًا إذ إتصل بأحد أصدقائه و قال له: عايز شوية فلوس أجيب بها أكل لمنذر عشان أدخلهم له !! أصاب العجب صديق منذر، فهذا الشاب صاحب العقدين من العمر كان يرفض أن يأتيه أصدقاؤه الطعام و هو في شدة الجوع وليس معه المال مكتفيا بالإجابة : شكرًا!!
لم يجد صديقه سوى أن يتصل به و يسأله: منذر، إنت طلبت أكل من المحامي ؟
فرد منذر ويملأ صوته الانزعاج: لا والله، ما طلبت إشي من حدا، شو في ؟
حكى له صديقه ما جرى بداية من قصة المحامية التي خدعته حتى حكاية زميلها الكاذب. لم يكد منذر يكمل المكالمة حتى انهار على الآرض باكيًا، يعتصره الألم من هول ما يرى و هو بعيد عن أهله، مستعيدًا شريط ذكرياته البائس الذي بدأ مع محاولات أسرته الدؤوبة لتهريبه من سوريا أثناء أحداث الثورة في نهايات عام ٢٠١١ لأنه كان مطلوبًا للتجنيد الإجباري. تمنى في هذا اللحظة أن يكون مجندًا في الجيش السوري على أن يرى هذه المهانة في أرض ظنها وطنًا له .
منذر وأسرته الحلبية التي كان لها حسب و نسب غير خفيين عمن يمر بالمدينة، لم يعد لديهم ما يملكون سوي حطام مصانعهم و أراضيهم المحترقة. حكاية بائسة ككثير من مثيلاتها في أرض لم يتبقى منها سوى الأطلال !!
لم يشعر بنفسه سوى و هو يطرق باب الزنزانة و قد انتباته هستيريا لم تصبه من قبل حتى و هو يرى قصف النظام السوري لبلدته، هرع الشاويش إليه سائلاً إياه ماذا يريد ؟ فزعق فيه قائلا: بدي أشوف الضابط هلأ !!
أخذه الشاويش للضابط الذي كان مواظبًا علي مشاهدة البرامج التليفزيونية التي تتلذذ في لعن السوريين و التحريض ضدهم، دخل إليه منذر متحفزًا راغبًا في إنهاء المسآلة برمتها.
التفت له الضابط و قال: أيه، عقلت ولا لسه ؟ هتفضل منورنا هنا ولا تغور وما تورنيش وشك المستفز ده تاني ؟
فرد منذر: أنا رح أمضى على الإقرار و ما بدي أدخل مصر تاني !!
يااااه، القعدة معانا عقلتك شكلها، ما تقعد معانا شوية كمان عشان أنسيك اسمك لو تحب !!
لم يرد على كلماته وأكتفى بالنظر إليه .
خلال دقائق معدودة، كان الضابط قد أحضر الورقة ليوقع عليها منذر، ثم قال له: إنت كده يا حبيبي مالكش قعدة في مصر، و لو فضلت فيها أكتر من ٤٨ ساعة هاجيبك تاني ، و المرة دي هتكون قاعد هنا بشكل غير شرعي، يعني هتشوف شكل تاني من الكرم بتاعنا. عايز تخرج من هنا على السويد بتاعتك وما تخطيش برجلك مصر تاني عشان ما اقطعهاش !!
رحل من مقر الأمن الوطني ولا يسيطر عليه سوى الخروج من هذه الأرض الملعونة، لم يكن أمامه مفر سوى أن يلجأ لأصدقائه من أجل حجز تذاكر الطيران و الحصول على تأشيرة الدخول للسويد أو السفر إلى تركيا مباشرة.
غادر منذر إلى تركيا بعد أن أعطاه زملاءه المال، وتذكر تلك اللحظة التي كان يوقع فيها على عدم دخوله مصر حتى مماته. لم يندم على رحيله من سوريا، و لم يندم على رحيله منمصر، فالآرضان ليسا مكانا لحياة إنسان يبتغى العيشة الكريمة. رحل غير آسف على أي منهما إلى أرض لا يعلم فيها سوى المجهول الذي ينتظره !!
ساحة النقاش