كتب- محمود محسن
مئات الأوراق المطلوبة.. عشرات الأختام والتوقيعات، ساعات كثيرة من اللف والدوران في متاهات المصالح الحكومية ما بين الصعود والنزول بحثا عن إمضاء هذا أو توقيع ذاك أو نظرة من موظف أو موظفة "ختم النسر".. عشرات الموظفين الذين تمر عليهم يوميا حتى تكاد تصاحب اغلبهم ويعرفون اسمك وطلبك لكنهم لا يستطيعون تجاوز الروتين أو ما يسمونه الإجراءات الرسمية..
تلك هي إذن الرحلة اليومية لمن يرغب في ملء ورقة حكومية أو استمارة رسمية أيا كانت بدءً من استخراج شهادة الميلاد وحتى استخراج شهادة الوفاة.. إجراءات لا تنتهي وتشابك لا مثيل له بين مختلف المصالح الحكومية.. هنا روتين المصالح الحكومية الذي يعاني منه المصريون من ساعة الميلاد ولا يتركهم حتى عند لحظات الوفاة.
دولة الورق
"في مصر كل شيء يمشي بالورق".. جملة قالها سيد عبد الله، الموظف بالسجل المدني، لأحد المواطنين الذي يشتكى من خطأ باسم والدته في شهادة الميلاد يمنعه من إتمام أية أوراق حكومية، يقول المواطن محمد صبري: "أنا أسم الأم عندي في شهادة الميلاد غلط وكل ما أحاول أصلحه أدخل في دايرة ومتاهه لا أول لها ولا أخر ويطلبون مني أن أذهب للمقر الرئيسي في القاهرة وأنا مواطن غلبان من المنيا لا ناقة لي ولا جمل ثم مش أنا اللي غلطت في الاسم عشان ألف اللف دا كله.. حسبي الله ونعم الوكيل".
إجراءات عقيمة
منى أشرف، مواطنة أخرى تعاني ويلات الروتين الحكومي.. كل ما تطلبه المرأة الثلاثينية معاش لها ولأبنائها الصغار بعد أن توفي زوجها وهو فلاح بسيط، لم يكن يوما ذا وظيفة حكومية أو من أصاحب المصانع والعقارات، لكن أسرته لا تجد من يعولها، ولم تكتف المصالح الحكومية بالهموم الملقاة على عاتق هذه المرأة البسيطة التي تحمل ابنها الصغير على كتفيها وهي تجوب أروقة مهد الروتين الحكومي في مصر بين أقسام المعاشات ومصالح السجلات وإدارة التأمينات من أجل راتب شهري لن يتعدى في أحسن الأحوال المائة جنية؟؟
تقول منى: "أنا امرأة جاهلة لم يعلمني أهلي القراءة والكتابة ولم أدخل المدرسة حتى إن عدد من أولادي لم نستخرج لهم شهادات ميلاد إلا بعد أن مر على ميلادهم عدة أعوام وهو يطلبون منى أوراقا لا أعرف من أين آتي بها ولا أعرف كيف استخرجها، أنا توفي زوجي وأريد راتبا أتعايش منه ما الصعب في ذلك ولماذا تذلنا الحكومة من أجل لقمة العيش؟؟".
تداخل المصالح والمؤسسات
وبعيدا عن الأخطاء في شهادات الميلاد وتعقيدات صرف معاش لأسرة فقيرة يبقى التداخل الحكومي أحد أبرز مهام البيروقراطية المصرية وأهم سمات الروتين الحكومي في مصر، فلا تكفي استخراج شهادة واحدة أو ورقه واحدة من مؤسسة أو مصلحة بعينها ولكن إذا كنت تعيش في مصر فإن الختم وشعار النسر له ثمن وإمضاء المسئول أو المدير لا يأتي بسهولة ولا توجد هيئة واحدة مختصة بشيء واحد.. فلو انك تسير في إجراءات المعاش فلابد لك أن تترد على أربع أو خمس مؤسسات حكومية ما بين المحكمة وقسم الشرطة والسجل المدني، والإدارة الصحية ومكان العمل.. الخ وبالرغم من أنك تسعى وراء أمر واحد إلا أن الجميع يطلبون منك أوراقا وأمورا مختلفة.
ويحكي ياسر عبد المعطي قصته مع الجهات الحكومية عندما بدأ في تجهيز أوراقه والتي تعفيه من التجنيد فيقول: "كان علي أن أذهب إلى الكلية التي تخرجت منها واستخراج عدد من الأوراق ثم الذهاب للسجل المدني واستخراج أوراق أخرى والدخول والخروج يوميا إلى قسم الشرطة ناهيك عن المرور على المعارف هنا وهناك والبحث عن واسطة أملا في إنهاء هذه الإجراءات، فأنا وحيد وليس لي جيش، ولكن الحكومة تنظر لي على أنني مجموعة من الأوراق فوق بعض ولا علاقة لها بالحقيقة، لو زورت هذه الأوراق لا يهمها بقدر وجود الأوراق بحد ذاتها".
...
سيد ومنى وياسر ليسوا مجرد نماذج يعانون تعنت الروتين الحكومي، ولكنهم يمثلون غالبية المصريين ممن يقفون يوميا على أبواب الحكومة المرصودة بهذه الإجراءات ولسان حالهم .. حسبنا الله ونعم والوكيل
ساحة النقاش